النـص :
متابعة ـ علي لفتة سعيد ـ كربلاء المقدسة
في نادي الكتاب وفي أمسية ثقافية حملت طابعاً فكريّاً وتحليليّاً، أستضاف نادي الكتاب الباحث والكاتب عبد الهادي البابي ليلقي محاضرة موسومة بـ(شخصية العبّاس بين الواقعية التاريخية والمخيال الشعبي) أدارها الصحفي محمد حديد الجحيشي، وحضرها جمع من المثقفين والمهتمين بالشأن الديني والتاريخي والأدبي..أفتتح البابي محاضرته بمقدّمة تنبيهية قال فيها : إن الحديث عن شخصية أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) من زاوية التحقيق التاريخي والواقعية المجردة غالباً ما يصطدم بما ترسّخ في وجدان الناس من خلال الموروث الشعبي، الذي تشكّل على مدى قرون بفعل الخيال الجمعي والشعر والمنبر والتناقل الشفهي ، وأكّد أن من يتجرأ على الحديث خارج هذا الإطار السائد قد يُواجَه بالتشكيك أو الرفض ، أو يُتَّهم بتقليل شأن تلك الشخصية المقدّسة ، مع أنّ الغاية الحقيقية هي تقديم صورة دقيقة ومتوازنة تُنصف العبّاس ولا تنساق خلف الأسطرة العاطفية..وأوضح البابي : أن شخصية العبّاس (عليه السلام) قد أكتسبت في الوعي الشعبي مكانة عالية، رسمتها القصص المتداولة والمراثي والأشعار، حيث يُصوَّر العبّاس على أنه بطل لا يُقهر، فارس لا تهمّه كثرة الجيوش ، حامٍ للأطفال والنساء ، وساقٍ للعطاشى رغم الحصار وعدد الأعداء الكبير، حتى صارت القصص الشعبية تقول إنه كان يجلب الماء وحده من بين سبعين ألفًا.. كما تُعطى للعباس صورة جسدية أسطورية ، فتوصف قامته بالطول المفرط ، ويقال إن رجليه كانتا تخطان الأرض حين يركب جواده ، وهذه الصورة تتكرر بإستمرار حتى أصبحت جزءاً من الذهنية الجمعية ، وأشار البابي إلى أن هذه الصورة رغم ما تحمله من إجلال وتعظيم، إلاّ أنها في كثير من الأحيان تبالغ وتتجاوز الواقع التاريخي، مما يؤثر على النظرة العقلانية إلى هذه الشخصية.. وأضاف أن ما نراه من ممارسات طقوسية وإعتقادات شعبية ترتبط بشخص العبّاس، يعكس درجة عالية من التقديس الخارج عن المألوف، وهو ما يشير إلى حالة أختلال في التوازن بين الجانب العاطفي والجانب العقائدي، ويُظهر تفوّق البُعد الشعبي في ممارسة التدين على حساب الفهم العقلي للدين وسير الشخصيات الدينية ، وحذّر البابي من خطورة إسقاط العقائد المبالغ فيها على الوقائع التاريخية ، مؤكداً أن التفاعل غير المنضبط مع الحكايات الشعبية قد يؤدي إلى أختلاط الحقائق ، بحيث لا يستطيع الباحث أو المتلقي العادي التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مختلق أو متخيل ، وهو أمر بالغ الخطورة لأنّه يؤدي إلى جعل الأسطورة ديناً، والتاريخ وحياً، مما يفضي إلى أختلال في الفهم وضعف في الإلتزام العملي..وفي القسم الثاني من المحاضرة ، أنتقل الباحث إلى تناول بعض السرديات التي كوّنها المخيال الشعبي حول شخصية العبّاس (عليه السلام)، مبتدئاً بقصة زواج الإمام علي (عليه السلام) من أم البنين، والكيفية التي جرى فيها الحديث عن أختيارها لتكون والدةً لفارس الطفّ، وقد أستعرض الباحث بإختصار تسلسل زوجات الإمام علي (ع) منذ زواجه من السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في السنة الثانية للهجرة ، وإنتهاءً بزوجته الأخيرة الصهباء بنت ربيعة التغلبي سنة 33 هـ ، وتوقف الباحث عند بعض المحطّات من سيرة العبّاس (ع)، منها سبب تلقيبه بساقي العطاشى، وحامي الضعينة ، وحامل لواء الحسين (ع) ، ثم تطرّق إلى كيفية أستشهاده في يوم عاشوراء، كما ورد في المصادر المعتبرة ، مع الإشارة إلى ما أُضيف لاحقاً من مبالغات لا يدعمها سند تاريخي رصين..كما تحدّث البابي بإسهاب عن دور الشعراء في صناعة صورة أسطورية للعبّاس (عليه السلام)، من خلال قصائد انطلقت من الخيال لا من الحقائق، فبالرغم من أن بعضها جاء بدافع المحبة والتعظيم ، إلاّ أن هناك قصائد أساءت ـ من حيث لا تقصد ـ إلى العبّاس (ع)، حين حمّلته صفات خارقة وخصالاً خيالية تبعده عن واقعه البشري الشريف وتدفع به إلى مصافّ الأسطورة. ونوّه الباحث إلى أن من أخطر الإشكالات التي تنتج عن تلك السرديات هو خلط العقيدة بالتاريخ، فتُقرأ النصوص الدينية على أنها تسجيل تاريخي دقيق، وتُقرأ الأخبار التاريخية وكأنها وحي مُنزَل، مما يؤدي إلى إضفاء طابع التقديس على كل ما قيل، وبالتالي تضييع الحدود بين الدين والتاريخ ، وهو ما يربك الفهم ويؤدي إلى إلتباس في الأحكام، خصوصاً لدى عامة الناس الذين لا يميزون بين المصادر والعوامل المؤثرة في الرواية. وأختتم البابي محاضرته بالتأكيد على أن مهمة فصل الواقع التاريخي عن المتخيل الشعبي مهمة صعبة وشاقة، لكنها ضرورية ومنصفة، بل تصبّ في مصلحة الشخصية التي يتم بحثها، لأنها تبرزها كما هي في الحقيقة ، لا كما تتخيلها العاطفة أو تصوّرها القصائد. وقد شهدت الأمسية في نهايتها جملة من المداخلات المهمة التي أغنت الحوار، وأسهمت في تعميق النقاش ، وتنوّعت بين الأسئلة التوضيحية والرؤى النقدية..وقد شارك في المداخلات كل من ، الأستاذ خليل الشافعي، الشاعر فاضل عزيز فرمان ، الروائي علي لفتة سعيد ، القاص هاشم الحلو، الأستاذ عباس محسن الجبوري وكذلك المحامي فاضل مناتي ..وكانت المداخلات ثرية، حيث أثارت قضايا متعددة تتعلّق بالفصل بين الوجدان والمعلومة ، وأثر الشعر والمنبر في تشكيل الذاكرة ، وكيفية إعادة قراءة الشخصيات التاريخية بعيداً عن التعصب والتهويل أو التهوين ..
|