السبت 2025/8/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 38.95 مئويـة
نيوز بار
صراع خارج حلبة الدراما : تفكيك الصراع التقليدي وبحثٌ في تجليات ما بعد الدراما
صراع خارج حلبة الدراما : تفكيك الصراع التقليدي وبحثٌ في تجليات ما بعد الدراما
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

الدكتور صلاح حمادي الحجاج

   منذ أن وضع أرسطو أُسس الدراما بوصفها بناءً محكمًا، يدور في فلك الصراع بين الخير والشر، وتحكمه ثلاث وحدات: الزمان، والمكان، والحدث – ارتضى المسرح لقرون أن يشتغل داخل حلبة مغلقة من التقاليد، لا تسمح بالخروج عن النص، ولا عن البنية. غير أن التاريخ لا يستقر، والفن بطبيعته تمردٌ متواصل على الجاهز والموروث.

     فكان لا بد من لحظة انشقاق… جاءت أولى بوادرها مع المسرح الملحمي لدى برتولد بريشت، الذي حاول أن يخلخل الاندماج العاطفي، ويوقظ عقل المتلقي بدلًا من أن يُنوّمه في أحضان الحبكة. ثم تصاعد التمرد في منعطف ما بعد الحداثة، حيث لم يعد الحدث يُروى، بل يُبعثر… ولم يعد الصراع يُفهم، بل يُفكّك… ولم تعد الشخصية بطلاً، بل شظايا هوية تبحث عن شكل.

     إن ما نشهده اليوم هو صراع خارج حلبة الدراما. صراع لم يعد محصورًا في ثنائية الخير والشر، ولم يعد محتاجًا لمكان واحد، أو زمن محدد، أو عقدة تُحل. بل هو صراع مع ذات الفن نفسه، مع سلطته القديمة، ومع شروطه البنيوية، ليفتح الدراما على فضاء جديد يعترف بالارتجال، ويُشرّع الفوضى، ويُشرك الجمهور كمشارك لا كمُتفرّج، ويعلن موت النص والممثل البطل.

الدراما تحت وصاية أرسطو: من البناء إلى الانغلاق

    حين رسم أرسطو في كتابه فن الشعر ملامح الدراما المثالية، لم يكن يؤسس فقط لنظرية أدبية، بل كان يضع أسس سلطة سردية هيمنت على المخيال الغربي قرونًا طويلة. وحدة الزمان، وحدة المكان، وحدة الموضوع، والصراع الذي يدور غالبًا بين قوى متعارضة (كالخير والشر، العقل والعاطفة، السلطة والفرد)... كلها كانت بمثابة القفص الذهبي الذي احتجز الدراما داخله، مانعًا إيّاها من التشظي أو التحليق في فضاءات أكثر حرية.

     لقد أصبحت الدراما، في ظل الوصاية الأرسطية، تمثيلاً مكرّرًا لنسق ثابت: بداية، وسط، نهاية. عقدة، صراع، حل. ولأن هذه البنية تفرض على الحياة شكلًا مفترضًا من المعنى والنظام، فإنها – من حيث لا تدري – تُسهم في إنتاج وهم الاستقرار، حتى في تناولها للفوضى. هنا تكمن المفارقة: الدراما القديمة كانت تُمثّل الحياة، ولكن ضمن شروط صارمة لا تسمح بانفلات المعنى.

التمرد الأول: المسرح الملحمي وخلخلة التماهي

يأتي بريشت ليقول: لا أريد جمهورًا يتعاطف ويندمج ويذرف الدموع، بل جمهورًا مشارك يطرح الأسئلة. وهكذا تبدأ أولى الانتفاضات الفعلية على النموذج الأرسطي. في المسرح الملحمي، يتم كسر الجدار الرابع، ويُمنع التماهي العاطفي، ويُعاد تشكيل العلاقة بين المتلقي والعرض.

 

يتحوّل الممثل إلى راوٍ، لا يعيش الشخصية، بل يعلّق عليها. تتوزع الأحداث على مشاهد متفرقة، منفصلة لا تُفضي إلى ذروة تقليدية. الهدف لم يعد التطهير، بل الوعي، لا الاندماج، بل الاغتراب. بريشت أخرج الصراع من الحلبة الأرسطية، ليضعه في الشارع، في التاريخ، في بنية السلطة والصراع الطبقي. ومعه، بدأ الفن يعي ذاته كفعل نقدي، لا مجرد تمثيل.

ما بعد الدراما: من موت البطل إلى تشظي المعنى

ثم تأتي عاصفة ما بعد الحداثة، لا لتهدم الحلبة فقط، بل لتشكك بوجودها أصلاً. فها هو النص يُعلن موته، والبطل يُختزل إلى كائن غامض بلا ملامح، والحدث لا يُروى وفق ترتيب زمني، بل يتشظى، يتداخل، يتقاطع، وربما يختفي. الدراما ما بعد الحداثية لم تعد دراما بالمفهوم التقليدي، بل تجربة مفتوحة، فوضوية، تحتفي باللا يقين، وتُقصي الفكرة القائلة بأن هناك معنى ثابتًا أو سردًا نهائيًا. المسرح يتحول إلى مختبر، إلى فسيفساء من الصور، الأصوات، الحركات، والأزمنة المختلطة. الجمهور لا يتلقى، بل يُستدرج للمشاركة، يلمس، يتحرك، يُربك ويُربك من حوله.

هل ما زالت الدراما (دراما)؟

في ظل كل هذا التمرد، يحق لنا أن نتساءل: هل فقدت الدراما رونقها حين خرجت من حلبتها؟ أم أن هذا الخروج نفسه كان ضرورة جمالية ومعرفية لفتح أفق جديد أكثر انفتاحًا وصدقًا مع فوضى العالم؟ هل التطهير الذي سعت إليه الدراما الكلاسيكية، والذي يقوم على الاندماج والتقمص، كان فعلًا علاجيًا يساعد على تنفيس المشاعر والتخلص من السموم النفسية، أم أنه كان مجرد وهم جمالي يُخدّر المتلقي داخل حبكة وهمية متقنة؟

    إن مفهوم ما بعد الدراما لا يلغي المسرح، لكنه يخلخله، يعيد تعريفه، وربما يعيده إلى جذوره الأولى: إلى الطقس، إلى اللعب، إلى المشاركة، إلى التعدد. لكن هذا التحول يطرح أيضًا إشكالية كبيرة: هل لا تزال الدراما دراما، إن لم يكن فيها صراع مركزي، أو بطل يُحتذى، أو نهاية تُنتظر؟ وهل باتت بحاجة إلى تسمية جديدة تليق بتشظيها؟ ربما سنشهد في قادم الأيام ما يمكن أن نسمّيه بـ"المشهد الحيّ"، أو "التجربة الأدائية"، أو حتى "فنّ اللحظة"، بدلًا من الدراما بوصفها بناءً سرديًا مغلقًا.

   ما نعرفه يقينًا هو أن الفن لا يموت، لكنه يُغيّر جلده. وأن السؤال سيظل حاضرًا: هل نحن أمام ولادة جديدة للدراما، أم أمام جنازتها؟ وهل المتلقي الجديد يبحث عن قصة تُروى، أم تجربة تُعاش؟

المشـاهدات 18   تاريخ الإضافـة 02/08/2025   رقم المحتوى 65329
أضف تقييـم