الأربعاء 2025/8/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 39.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة وليمة آلهة الحرب
قصة قصيرة وليمة آلهة الحرب
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب طالب كاظم
النـص :

 

 

 

 

 

 

يوم الاحد. الساعة الخامسة فجر اليوم الثالث عشر ما بعد الالف الثانية .انصت الى فحيح الافاعي المموهة بالحراشف التي تشبه لون الطين والغبار، وهي تتربص بجرذان الملاجئ الضيقة التي فقدت بصرها بسبب البراغيث، فيما صوت صيحات  ثعالب الماء والطيور المذعورة، تبدد صمت المستنقعات الضحلة، التي امتدت حتى الافق حيث تنتصب متاريس الموت،  بينما احراش القصب العالية التي انتصبت كحراس للمتاهة والقلق، تذكرنا بأننا على وشك  ان نقتل، هناك في منتصف الغمر الجامد، تجوب صفحة مياه الهور قوارب الدورية القتالية، التي تلوذ بالأجمة والاحراش الكثيفة، نجدف بصمت وخوف ان ترصدنا الاحداق المضيئة، التي تجوب المستنقع بحثا عن طريدة  لوليمة العشاء، تشظى انعكاس ضوء القمر الباهت، مع الموجات الحذرة التي رافقت انزلاق القارب عبر الاجمة الكثيفة، كلما شق المجداف مياه الهور الراكدة . قبل ان يحل الغروب، تلقينا تحذيرات تنتهي بوعيد شديد اللهجة من تسلل الضفادع البشرية، التي تلهو بتفخيخ الاحراش والتلال الترابية الواطئة التي انتصبت وسط المياه الراكدة كمسلات للموت، بالألغام والمتفجرات.- انها بقايا حضارات قديمة؟  وهو يشير  الى تل انتصب وسط الظلام  - من؟  قلت له رد هامسا: - تلك التلال ! -أي حضارة؟!!  انها ابار نفط مجنون الجنوبي ردمت بالتراب، الدوريات القتالية تمضي الليل هناك وتنسحب قبل الفجر! تخلصت من خوذتي الفولاذية المموهة بالخيش وبقايا الاسمال البالية، كانت تسبب لي صداعا مزعجا كلما اعتمرتها، كنت اعتني بها كما لو كانت طفلة مدللة، اعيد شد الخيش ليكون اكثر التصاقا بالخوذة، كنت اكره ان تبدو خوذتي قبيحة بالأسمال البالية، التي  تموه شكلها ولونها الاخضر لكي تبدو اقرب شبها باليباب، ليس هناك ثمة سبب يمنعني من خداع نفسي للهروب من محنة التفكير بالموت، سحقت عود الثقاب بجانب علبة الكبريت الخشن، فاشتعل بنيران شاحبة حرقت بها طرف سيجارة سومر،  تفاديت تسرب ضوء الشعلة بين يدي، هناك كانت ثمة اصوات بعيدة لمجداف حذر تتردد عبر احراش القصب الكثيفة بسيقانه العالية، ندرك بالتجربة المريرة التي مررنا بها، ان قاربا مجهول الهوية، يحاول التقرب من الساتر الترابي الضيق الذي امتد عبر مستنقعات مجنون، بين طرفي حافتيه المغمورة بالمياه الراكدة ليست سوى اربعة امتار، نبشنا في الطين الخنادق الشقية لتنقلات الجنود، والملاجئ الضيقة الواطئة، التي لا تتسع لأكثر من اربعة جنود يتمددون داخلها ككلمات متقاطعة، حقائب معلقة على جدار ترابي اسند بأكياس التحكيم، مناشف بالية لتجفيف الوجوه وادوات حلاقة في علب هدايا يعلوها الصدأ، صناديق ذخيرة، الاف الطلقات للبنادق والرشاشات الثقيلة، صواعق وقنابل يدوية هجومية ودفاعية، هاتف ميداني  والكثير من البراغيث التي تناسلت على دماء الجنود اللزجة. لم يمض وقت طويل حين عاد الصمت عميقا وراكدا، كان قارب الدورية المعادية يبتعد ، فيما صوت طرطشة التجديف يخفت ويتلاشى شيئا فشيئا، تسلل الضوء الابيض في الافق، كان ضوء شاحبا وهزيلا، وهو يطبع صورته القلقة في الامتداد الرمادي، استيقظت طيور المستنقع، التي اعتادت دوي انفجارات قذائف الهاونات الثقيلة التي تتساقط فوق رؤوسنا، وهي تطلق صيحاتها المبكّرة، اخذت تغادر الاحراش الكثيفة، التي شكلت الخط الوهمي الذي يفصل خطنا الدفاعي الذي يشبه ثعبان متوعك تمدد وسط الهور، عن خط متاريس العدو الاول، ما ان قاربت سيجارة السومر على الانتهاء، اشعلت بطرفها المتقد سيجارتي الثانية، كانت الشمس بيضاء وهي تتسلق الافق ببطء شديد، كما في الايام العديدة التي مضت، ها هو يوم اخر يبدأ واخر يتلاشى . المذكرات، انها الاشياء التي ادونها بعد ان اغادر حانة قارب دجلة نصف ثمل ، حينما لا اجد طاولة فارغة هناك، لأني غالبا اختار طاولة بكرسي واحد، تكون حانة سرجون وجهتي التالية . قالت وهي تتطلع في عينيه - لم اعد املك وقتا لانتظار لا اعرف نهايته! -انها الحرب ؟! -الحرب؟  -انها تعترض طريقي اليك . لست انت ، فالأمر اكثر مما تتصورين وابعد غورا واكثر عمقا ، يمكنك الانتظار والتطلع في الافق والتمتع بمساءات تختنق بالورود وعبارات الثناء،  تعمدت كثيرا او طوال الوقت ، ان ابعد عن تفكيري مهمة كتابة مذكراتي ، يبدو الامر تافها ، عشت تجربة عميقة كما لو كانت حياة كاملة ، ما جدوى ذلك ؟ ان اكتب مذكراتي؟ بالأحرى ما جدوى ان اكشف ما عشته لشخص اخر سيسترسل بقراءتها وهو يقفز عبر الكلمات والمقاطع الطويلة، يحاول ان يرمم ضجره بالدهشة من الحياة العسيرة التي  امضاها شخص اخر بملء ارادته، في الوقت الذي يستطيع فيه التخلص من متاعبه بالانتحار او بالهروب ؟! ايكون الانتحار حلا؟ ولكن لم الانتحار؟ خض تجربتك حتى مداها البعيد وتطلع في عين الله علك تجد المغفرة، ان تغفر الخطايا والمتاعب والالام وتمضي الى نهاية الطريق، كومة عظام بالية وبقايا خصلات شعر، بعد ان عشت التجربة الكبيرة التي صنعت من حياتك قصيرة الامد، قصة  طويلة  مشوقة تسردها لنفسك حين تشعر بالممل وهو يفت في عضدك، ولكن الاشياء تمضي ابدا، الالم والدهشة وقصص الحب التي تنتهي بأخفاف مريع، كقصة الحب التي صنعتها .  انت متفرد ولا احد يشبهك ، قلت وانا اتطلع الى نفسي في المرآة ، كنت في العشرين، الى حد ما كنت انيقا، رغم ان حافة الخوذة الفولاذية، تركت بصمتها على جبهتي، وانا في الطريق الى وجهتي، وجدت ان ثمة وقت فائض بين يدي ، كنت اذهب الى الموعد مبكرا ، الم تكن المواعيد  وقتا مبهجا للاحتفال، طالما ستلتقي حبيبتك المتمردة والمشاكسة، ادخرت ساعة في توقيتي قبل ان يحل الموعد ، تلك الساعة هي الوقت الذي يتيح لي العبور الى الحانة الصغيرة، التي تطل على ميدان الاندلس ، لتناول الجعة المثلجة. شيئا فشيئا خفتت الاضاءة وغرقت المقاعد الوثيرة  في الظلام باستثناء  المصابيح الخافتة المعلقة في سقف القاعة ،بدت كما لو كانت نجوما قصية،  مددت ساقي  وارخيت جسمي على الكرسي المنجد بالقطيفة الحمراء ، وانا اتطلع بصمت الى المشهد للمرة الخامسة ،  كانت تعدو عبر الاحراش القصيرة ، ثمة سنابل ذهبية تتموج وطيور تحلق مذعورة ، كانت تركض وهي تلوح بذراعيها ،  في مواجهتي، كنت ارى تقاطيع جسدها اللين، كانت تهتز، بثوبها القصير المجعد الذي التصق بقوامها المتناسق، بنهديها الفتيين، ببطنها الضامر و ساقيها المفتولين، بينما المطر يبلل وجهها الابيض المنمش، بخصلات شعرها الاشقر التي التفت حول عنقها الضخم، بدت كما لو انها حواء، امرأة الغواية الاولى، كنت غارقا في المشهد ، غارقا في المرأة التي فقدت اثرها، بعد ذلك حين نضجت اكثر، عندما نضبت مخيلتي وتبخرت صور ذاكرتي القديمة، حين اخذت افتش عن بقايا الظلال التي علقت هناك عند حافة النسيان، كنت ابحث من نزل لآخر، علّي اتعثر بتقاطيع وجهها  في مخدع  امرأة ما،  في منتصف عقدها الغابر، تغويك على مقايضة الفراغ الذي يفت في عضدها، باللذة ، بلا جدوى تحاول ان تتخلص من حلمك القديم الذي تهشم الى الابد، تلك التقاطيع التي ظلت تعدو عبر الحقول الخضراء والسنابل التي طأطأت رؤوسها  فتمضي الى نهايتك بلا الام ، الا ان متاهة الامتداد الراكد لم تنته، الامر الذي انتزعني من الدوامات التي قادتني اليها، عبر صيحات الطائر التي مزقت السكون الذي اطبق على حافات الهور، نكتشف اننا نلوذ بمخيلتنا حين يداهمنا خوف الموت، مخيلتنا التي باتت هي الاخرى، امتدادا رخوا بلا ملامح لفجيعة صعبة المراس، تضيئها قنابر التنوير التي تزيح الظلام  لدقيقة قبل ان يسترد هور مجنون غموضه وصمته العميق.يمكنني تتبع اثر بصمات صوتك، وهو يتردد في هواء المستنقع الراكد، كان  ناعما ودافئا يحاول انتزاعي من مخالب المحنة، بينما الحرارة تضيق قبضتها حول عنقي بالملح والعرق كلما تسلقت الشمس السماء الفضية اللامعة، هنالك العديد من الازاهير البرية التي تطل عبر احراش البردي والقصب وهي  تذبل ببطء، والكثير من البتلات زهرية اللون التي كانت تتساقط طوال الوقت، بدت الزهور الميته، جرداء ودميمة بقشرتها الخشنة التي اخذت تتفتت، هناك صوتك وهو يختنق بحبات العرق التي تتفصد فوق بشرتك وانت تحصدينها بمنديلك الورقي المعطر، الذي يمتص بمساماته حبات العرق المالحة، يستيقظ عطر انوثتك في لحظته الاخيرة حين تردد صوتك في مكان تشكله جدران الخنادق الضيقة بلونها الترابي، بينما الغبار الكثيف يعيد تشكيل صورة متاريس الجبهة،  صوتك كما لو كان طوق نجاة يعوم في الغمر وهو يتردد في الفراغ الذي يحنط المكان بفحيح الافاعي والضفادع اللزجة، كنت كمرساة هائلة تغطس عميقا وتستقر في قاع تختنق بالمشاعر واسراب الاسماك الفضية والحلزونات، كما لو كان تيارا عنيفا يتدفق عبر صخور ناتئة فتجرف الحجر المتهالك صوب نهايته، صوتك يعيد تشكيل تقاطيع الاشياء كما لو كان برقا هائلا يضيع في العتمة فيما صدى بصماته المتشعبة يتردد في فضاءات غامضة، صدى عميق يعيد تشكيل تقاطيع وجهك مرارا وتكرارا كلما داهمتني  القذائف المعتوهة، وافكر للحظة علّني اراك ! بينما صوتك الذابل، وهو يتلاشى في ذاكرتي، يمنح الصخرة الصلدة التي تتفتت بصمت تحت امواجك الغابرة شكل الحب، ها هو صوتك مخادعا  كالسراب، يفلت من بين اصابعي كلما حاولت الامساك بظلالك القصية وانا اتطلع الى خوذتي الفولاذية بين اصابعي ، افكر ان اعيد تمويهها بالخش والاسمال القديمة مرة اخرى  فهي الاخرى باتت مسنة مثلنا، فالحرب لم تغادر بعد سرد قصصها المملة عن قتلى طواهم الامتداد الغابر للنسيان. 

المشـاهدات 114   تاريخ الإضافـة 12/08/2025   رقم المحتوى 65636
أضف تقييـم