
![]() |
حين تكتبك الكتابة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : ليست الكتابة قراراً تتخذه في صباح رائق، وليست مهنة تختارها كما تختار معطفاً يناسب الطقس. إنّها شيء يتسلّل إليك بصمت، يسكنك دون استئذان، ويراقبك طيلة الوقت كما يراقب الراصدُ ظلَّ الفريسة. الكتابة ليست ما تفعله، بل ما يفعله بك حضورها. كل سطر تكتبه، يكتبك من جديد. كل فقرة تحاول صياغتها، تعيد ترتيبك من الداخل. في البدء، تظن أنك تمسك القلم، لكن سرعان ما تدرك أن القلم هو الذي يقودك، وأن الحروف لا تأتي من قاموسك بل من جرحٍ لم يُشفى، من فكرةٍ رفضت أن تموت، من سؤالٍ يأبى أن يجد جواباً. نكتب لأننا لا نحتمل الصمت. لأن داخلنا عالَم يفيض بالكلام، ولا يكفيه أن يُقال على المقاهي أو في مكالمات الليل. هناك شيء أعمق لا يتسع له الحديث العابر، شيء يحتاج لورقة بيضاء لتشهق به، وتخرج من صدرك كما تخرج الأرواح من الزحام. نكتب لأننا نخاف الزوال. لأننا نشكُّ في الذاكرة، ونتّهم النسيان بأنه يدبّر لنا خيانة كبرى. فنسابقه بالحبر، نريد أن نترك أثراً، أن نودِع أنفسنا في جملةٍ تبقى بعدنا، في استعارةٍ تتسلل من زمن إلى زمن. والكتابة، في جوهرها، ليست ترفاً فكرياً، بل اضطرارٌ وجودي. تشبه التنفس تحت الماء، أو الصراخ من خلف زجاج. إنها مقاومة. لا فقط للعالم الخارجي، بل أيضاً لهذا الداخل المتواطئ، الذي يتظاهر أنه بخير بينما هو في أشدّ حالات انكساره. الكتابة لا تأتي حين تدعوها، بل حين تقرر هي أن تقتحمك. قد تكتب وأنت تمشي، أو حين تنظر في عيني شخص تحبّه، أو وأنت تغسل الصحون. وفجأة، تتشكل جملة في رأسك، تعبر كبرق، ثم تختفي إن لم تُدوَّن. إنها تمرُّ بك كالوحي، لكن من دون أن تترك لك خياراً. تجرّك إلى مكتبك أو إلى هامش جريدة، وتجعلك تكتب كما لو أن حياتك تتوقف على تلك السطور. الذين يكتبون بصدق لا يبحثون عن قرّاء، بل عن نجاة. لا يهمّهم عدد الإعجابات أو العقود أو المديح، بقدر ما يهمّهم أن ينجوا من ثقل ما بداخلهم. إنهم يرمون الحبر كما يرمي الغريقُ طوق النجاة. الكتابة، في حالتها الأعمق، ليست وسيلة للتواصل، بل وسيلة للعيش. نكتب لأن هناك ما لا يُقال إلا كتابة. وما لا يُفهم إلا إذا عُزف بالكلمات. لأن الكلام الشفهي يسقط، أما الكلمة المكتوبة، فتبقى تُعاتبنا، تُذكّرنا، تُشهر في وجوهنا ما أنكرناه. الكتابة ليست خياراً حرّاً. إنها نداء. وقد تظل تلاحقك سنين، تختبئ فيك حتى تنضج، ثم تنفجر فجأة، كما تنفجر البراكين المكبوتة منذ آلاف السنين. من يكتب، لا يختار أن يكتب. إنه فقط يُصاب بذلك الداء الجميل الذي لا يُشفى منه، ويظل يعود كلما ظنّ أنه تخلّص منه. ليست الكتابة بحثاً عن الجمال فحسب، بل أحياناً هي بحث عن العدالة، عن المعنى، عن الله نفسه، أو عن إنسان ضائع في الداخل. نكتب لكي نبحث، ولكي لا نستسلم، ولكي نقول: نحن هنا، وقلوبنا ما زالت تنبض، رغم كل شيء. |
المشـاهدات 50 تاريخ الإضافـة 15/08/2025 رقم المحتوى 65676 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |