
![]() |
قصة قصيرة عندما توقف الرمح ...! |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
د. عبد الحسين علوان الدرويش
اعتادت رقية في كل يوم ، وعند ميقات الصلاة أن تفرش سجادة والدها الحسين ليصلي عليها ، وفي يوم الطف ،لما حان وقت الصلاة ، قامت الطفلة ذات الخمس سنوات بفرش السجادة ،وجلست تنتظر بفارغ الصبر والدها ليأتي ويصلي عليها ،وفيما هي تنتظر بلهفة وترقب ،كانت ذروة الأحداث الدامية خارج خيمتها ، حيث خيول تعدو بسرعة جنونية ، والمكان يضج بصهيلها ، وصليل السيوف والدروع ،ودماء تسيل مكونة انهار قانية ،وعويل اطفال ونساء يطلبن جرعة ماء ،اجساد على الثرى مثخنة بالجراح ، وحرم تباح ،اعضاء بشرية موزعة على ساحة المعركة ،الشمس في كبد السماء ، تضرب أشعتها المستقيمة ، كشلاﻻت نيران متقدة ، تحول المكان إلى جحيم ، وحرائق لا تطاق ، أشلاء من ايادي غضة بعمر الورود ،واعضاء مبتورة وسواعد ناعمة وحدقات ممزقة ، وصيحات الرجال وسط غبار المعركة الكثيف . وهكذا مرت تلك الاحداث بسرعة حتى استشهاد جميع الاصحاب ، والخاتمة كانت عند والدها سيد الشهداء!! وفي لحظة توقف فيها الزمن برهة ، حين وقت الهجوم على خيام معسكر الحسين ! ،واذا بشمر اللعين ،يدخل الخيمة عنوة ، وسيفه ما يزال يقطر دما ، ومعه غلام ، فسألته رقية عن والدها ببراءة الاطفال في عينيها ،ذات الوجه الملائكي الزاهر المحاط بهالة من النور الساطع ، لكن الشمر الحاقد أمر غلامه أن يضربها!! ، فامتنع الغلام خائفا مترددا صامتا ، لكن اللعين نفذ ذلك بنفسه غير مبال ولا مهتم . وعندما سارت قافلة السبايا ، من الكوفة إلى الشام ، تذكرت الطفلة الصغيرة والدها الحسين ،وقلبه العطوف ، ويده الحانية ، بعدما ذاقت مرارة السبي الأليمة ، ومعاملة الأعداء القاسية ، فراحت تبكي بشدة ،وتئن بصوت عالٍ ، ولما سمع العدو بذلك ، قام أحد الجنود بإسكات الطفلة ونهرها بشدة ! ، لكنها استمرت بالبكاء ، بل اشتد بكائها حتى بح صوتها ، فقال لها ذلك اللعين : اسكتي يابنت الخارجي !! ، وعندما سمعت ذلك تأذت أذية ، فاقت عمرها الغض ، من هذا الكلام الجارح ، وأخذت تخاطب أباها : أبتاه قتلوك ظلما وعدوانا وسموك بالخارجي !!! ، فما كان من ذلك الجندي المرافق للقافلة ،الا أن ألقاها من فوق ظهر الناقة إلى الأرض الجرداء !! ، وقد عسعس الليل الحالك البهيم ، واحتجب القمر بغيوم سوداء كالعباءة الصوفية الثقيلة غطت مساحات الأرض ، وتعطلت لغة الكلام ، وأخرس لسان الليل الطويل ، وبذلك لم ينتبه لسقوطها المباغت أحد من القافلة ، التي تسير بتؤدة وتأن ، فقامت رقية تعدو خلف القافلة ، التي خلت من كل صوت ، حتى من نباح الكلاب ، وهي تعدو ،وقد اثقل الأسر ممشاها ،اثوابها رثة ، والاقدام حافية ، والدمع تذرفه في الخد عيناها ،استشهد الذي كان يحميها ويسعدها ، فالدهر من بعده البؤس ابقاها ، والهم انحلها ، والغم اضناها ، لكنها ورغم ذلك لم تستطع اللحاق القافلة لصغر سنها ،ولشدة ما أصابها من التعب والأعياء . وفجأة وعلى حين غرة ، توقف الرمح الطويل ، المصبوغ بالدم القاني ، الذي كان عليه رأس الحسين ، وأندس بعمق وثبات في التراب !!! ، بحيث لم يستطع أحد من الحرس أن يحركه قيد أنملة !! ، وبذلوا جهدا وحاولوا عدة مرات تحريكه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا !!! ، ثم تعالت أصوات حراس القافلة وهمهمات القادة ، ليتبينوا حقيقة الأمر ،الذي تلبسهم بالحيرة ، مما أدى إلى توقف القافلة !! ، فعلموا إن هذه الحادثة خارج أرادتهم ... ، أنه اعجاز!!! ، وأنه تدخل من يد الغيب لأن يد الله فوق أيديهم !!! . وأجمعوا بالقول : لا يجيب على هذا الأمر ، الذي دبر بليل سقيم ، ألا أهل البيت ، وجاءوا عشاء يتساءلون عن النبأ الذي كانوا فيه يختلفون ، وتقدم رئيس القافلة ، يجر أقدامه بالخيبة والخوف ،وسأله عن سبب تلك الحادثة الغرائبية ؟؟ ، فقال له السجاد ، وهو في حالة يرثى لها وقد قيد بالسلاسل والاعلاف ، وهو الرجل الوحيد في قافلة السبايا ،وكان وضعه اليما جدا ، حيث كان موعوكا مصفر الوجه ناحل الجسم ، وقد ملئت جراجات القيد قدميه ويديه المغلولتين. فأخبره السجاد بعد أن حمد الله كثيرا، ونادى ربه نداءا خفيا ...الهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك ، وورعتي لا يسكنها الا امانك، وذاتي لا يعزها اﻻ سلطانك ،وكربي لا يفرجه سوى رحمتك ، وضري لا يكشفه غير رأفتك ، ثم أردف بالقول جهرا : أن إحدى الصغيرات قد فقدت أثناء سير القافلة !! ، ولم يتحرك الرمح ابدا ما لم يتم العثور عليها!!! . وعندما سمعت بذلك العقيلة ،القت بنفسها من فوق ظهر الناقة على رمال الصحراء ، التي لازالت ساخنة رغم برودة الليل ، ورجعت إلى الوراء ، حتى تعثر على الطفلة الضائعة وسط قطع الليل المظلم ،وفتشت عن الطفلة اليتيمة بكل جهة وناحية ، حتى وقع نظرها ،على شجيرة صغيرة منحنية على شيء ،وصوت عذب يردد آيات من الذكر الحكيم ، حتى اقتربت قاب قوسين أو أدنى ، تبين أنها امرأة متلفعة بالسواد من رأسها إلى أسفل قدميها ،جالسة على الرمال منحنية واضعة راس الطفلة في حجرها ، وقد سكنت روح الطفلة المضطربة ،وهي هادئة ، لأنها في ملاذ آمن ، وتعبق رائحة الجنة في ملابسها السوداء القاتمة ، ثم قالت العقيلة لتلك المرأة من انت ...؟؟ ، فكان جواب المرأة : أنا أمك الزهراء !!!! ، واردفت بالقول : أظننت أنني أغفل عن ايتام ولدي !!! اخذت العقيلة رقية والتحقت بالركب الحسيني ، بعدما ارتفع و تحرك الرمح الذي يعلوه راس الحسين !!!، وعندما وصلوا إلى الشام ، قامت الطفلة بما هي معتادة عليه ، من اعداد السجادة لوالدها الحسين وقت صلاة الظهرين ، وانتظرته كثيرا دون جدوى ، فظلت تسأل عنه وهي تبكي ... ونساء أهل البيت في حيرة بما يخبرنها !! ، وحين سمع بكائها يزيد سأل عما تطلبه هذه الطفلة ،فأجيب بأنها تطلب والدها الحسين!!، وهنا أمر يزيد بأن يرسل لها رأس أبيها ، على طبق مغطى ، وعندما جاءوا بمنديل ووضع بين يديها ، وكشف الغطاء عنه فقالت برهبة : ما هذا الرأس!!!! قالوا لها : أنه رأس أبيك!!! رفعته من المنديل حاضنة له وهي تنعي ، وارتفع بكاء نساء اهل البيت معها ،وقالت : يا أبتاه من خضبك بدمائك... يا أبتاه من الذي قطع وريدك ...يا أبتاه من الذي ايتمني على صغر سني ، هذا الموقف اجج مشاعرها الفياضة ،وبعد ذلك ، وضعت فمها على فمه الشريف ، وانكبت على الرأس ...تبكي وتصرخ وتشهق ، حتى غشي عليها !! ثم فارقت الحياة وفاضت روحها البريئة . ............................................ تونس ، فندق ادام ٥ / ٨ / ٢٠٢٥ م |
المشـاهدات 30 تاريخ الإضافـة 18/08/2025 رقم المحتوى 65767 |