الأحد 2025/8/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
تراجيديا (التلّ المخروطي) في (حكايات مهودر السّاخرة) ؟!
تراجيديا (التلّ المخروطي) في (حكايات مهودر السّاخرة) ؟!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

الوصف: C:UserslenovoDesktopalsabaah-4395.jpg

                                        أ.د. إياد عبد الودود عثمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

       لم يكن ما يكتبُهُ القاصّ والرّوائيّ عبد الحليم مهودر سردًا تقليديًّا، بل بدا متناغمًا مع سمة الابتكار، ولاسيما في قدرتِهِ على توظيف الأخيلة، وتحقيق صور ذهنيّة لا تخلو من الطابع التوليفي MONTAGE ؛ لتمرّسِهِ في كتابة السيناريو، وإسهامِهِ في المنجَز المسرحيّ والسّينميّ والوثائقيّ، ويبدو أنّ للبصرة التي وُلِدَ فيها أبلغَ التأثير في ظهور التّجريب في سردِه، بتأثير السّاردَين الكبيرَين محمد خضيّر، وكاظم الأحمدي، فضلا عن الطابع التّجديدي المُهيمن على التّفكير الجماعي لأدباء البصرة.

     إنّ ما كتَبَهُ عبد الحليم مهودر في (حكايات مهودر السّاخرة) – كما أسماها – نمطٌ أدائيٌّ تجريبيٌّ أفادَ من خصوصيّة الحكي، على أساس أنّ الحكاية غالبًا ما تقوم على الواقع المشوب بمبتكراتِ أخيلةِ السّارد؛ فالحكايات بوصفها الاصطلاحيّ ترتبط بالقِدَم والأصالة، وهي عنده غالبًا ما تبحثُ في الغَرابة مستندةً إلى شخصيّات جاذبة، تقومُ على محاكاةٍ من نوعٍ خاصّ ذي ارتباطٍ بالظواهر الاجتماعيّة والإنثروبولوجيّة، وعلى الرّغم من احتكام الحكايات إلى قوانين السّرد ومبادئه، لكنّها تهمل التّعامل مع التقانات المتقدِّمة، وهذه واحدة من السمات الرئيسة التي تميّزها عن القصّة. أما أبرز ما يحيلُ على التّجريب المشار إليه فيتمظهر في حكايةَ (شعرةُ العُمْر) التي خالفتْ كلَّ الحكاياتِ في المجموعة بنمطِ السّرد القائم على محاكاة الطريقة العربيّة الموروثة بابتدائها بالقول: ((كان يا ما كان في قديم الزّمان))، وكانت شخوصُها من الحيوانات على طريقة (المرايا) التي  تتناغم مع (كليلة ودمنة) بفحواها الفلسفي، وطريقة التمثيل الاستعاري التي بُنيت عليه نصوصُها.

     لقد بدتِ المجموعة ثريّةً فيها أربع عشرة حكاية ذات مهيمنات فلسفيّة، ولاسيما الحكاية الطويلة المعنوَنة بـ (حكاية كلّ صيف) التي اقتَرَبتْ كثيرًا من عوالم القصّة القصيرة. أما (حكاية الطبّال) - على الرّغم من إصرار القاصّ على وضعِ مفردةِ (حكاية) في أصل العنوان - ، فإننا نجدُها نمطًا من القصّ المؤدلَج القريبِ من القصّة القصيرة تحدّثَتْ في الحصار الذي تعرّض له العراق أوائل التسعينيّات وما بعدها، وقد استندَتْ إلى الإيماءاتِ والمراوغَةِ والمفارقَةِ والاختزال، وكلّ هذه من مآلاتِ القصّة القصيرة.

       إنّ الكلامَ في الوعي السّرديّ لدى القاص عبد الحليم مهودر يطول، ولاسيما في ما أسماه (حكاية خارج المتن)؛ وهي آخرُ حكايات المجموعة التي ذيَّلها بعبارة (نصف حكاية) وعيًا منه بمظهرِ التّكثيف والتّجريب الذي فُتِنَ به. وكانت حكاية (النّفاخات) هي الوحيدة من بين المجموعة ذات طابَعٍ ساخر بالمعنى الدّقيق للعبارة؟! ، وقد انسجمَتْ مع عنوانِ المجموعة. ولا أريد – هنا – التّفصيلَ أكثر في المفارَقة التي استندَ إليها عنوانُ المجموعة، فقد نقلَتْ معظمُ الحكاياتِ فيها خطابًا تراجيديًّا لاذعًا قريبًا جدًّا من الفلسفة.

       لفتَتِ انتباهي حكايةُ (التلّ المخروطي) لخصوصيّة اللغة التي كُتبَتْ بها؛ فهي جزْلة جادّة بعيدة عن السّخرية المفتَرَضة في عنوان المجموعة؛ إذ هيمن فيها الحدث على لغة السّرد التي تحمل قيمًا عليا في الإنسانيّة، و وعيًا واضحًا مكثّفًا على طريقة (جوامع الكلم) العربيّة الأصيلة، من ذلك قول الراوي العليم: ((عقيل لم يختبئ)) ، و ((كانت المعركةُ سِجالًا)) ، و ((سقط عقيل عاريًا فوق التّلّ عندما رفضَ الجنود من الجانبَين قتله)) ، و (( أنا حيثُ أنا .. لا أرى إلا السماء..)) ، و ((وقفَ القنّاص [...] و رفضَ قتلَهُ، وقال: إنّهُ عراقي يا سيّدي لا أستطيع)). زيادةً على مقولات أخرى تتّسم بإحالتها على معانٍ كنائيّة، منها قولُ الآمر: ((هل عَلَيَّ أن أُبدِلَ عاقلًا بمجنون)).

     ظلّ الوعي السّردي في حكاية (التلّ المخروطي) واضحًا منذُ ابتداءِ الحكاية القائمة على اجتذاب القارئ بعدم رغبة القاصّ في سرد حكايةٍ عن الحرب تأدّبًا، وقد يكون العنوان الذي ظهر خارج حدود كلمة حكاية انسجم مع ذلك، ثم يردفها بنهاية يقولُ فيها: ((لا مَعنى أن أكسرَ تعهّداتي لنسيانِ الحرب))، ثمّ يختم بالقول: ((بقيَ عقيلُ وجهًا لوجهٍ مع ... أنا حيثُ أنا .. لا أرى إلا السّماء..))، ويبدو واضحًا أنّ السّارد حذفَ لفظ الجلالة بعد قوله:  ((وجهًا لوجه مع ... )) بدلالة ذكر السّماء في السطر التالي، ثمّ أنّ اختيار اسم (عقيل) المُرتَبط بمعنى العقل وارتباطه بالقدرة الإدراكيّة والمعرفيّة للشخصيّة كان مقصودًا، وقد وُظِّفَتْ هذه الدلالة في مقامات متعدّدة من الحكاية، منها قول الرّاوي: ((كنتُ في الخطوطِ الأماميّة، أمّا عقيل [...] فقدَ عقلَه))، وفي قوله: ((عقيل لم يختبئ)) استُعينَ بلغة الغِياب للإحالة على فقد العقل، وكذا قوله: ((جاء الآمر ودقَّقَ في الأمر.. أخبَرَهُ أحد الجنود من حمايتِهِ أنّ اسمه عقيل وأنّه فاقدٌ لعقلِه)).

   يلفتُ الانتباه في حكاية (التلّ المخروطي) ملمح الوعي التوليفي التعبيري الحركي، ولاسيما في المشهد الذي ظهر فيه عقيل عاريًا فوق التلّ وهو يصوّب ببندقيّته باتجاه العدو وباتجاه الصّديق ((يصمت فترة ويُطلق النّار مرّة أخرى)) وما تلاه من لقطات عزّزَتْ أسلوبَ الحكي المستندَ إلى شكلٍ من أشكال التّأمّل الفلسفي لفهم الواقع، والكشف عن سوداويّة الحرب وظلمها؛ والرّاوي – هنا – ينقلُنا سياقيًّا إلى التّراجيديا بإثارة عاطفتَي الشّفقة والخوف على طريقة أرسطو في التّطهير      (CATHARSIS)، وكان مرتكزُ ذلك شخصيّة (عقيل) الذي لم يكن كائنًا ورقيًّا مجرَّدًا أبدًا بل كان شخصيّة حاضرة بكلّ ما تعني الكلمة يتصارع عند ذكره الواقعي مع المُتخيَّل بكل قوّة، وكثيرا ما يقترن ذكر عقيل بالأمكنة الغامضة كما في (أرض الطّيب) التي تدور فيها المعركة، وكلمة الطّيب تحيل سيميائيًّا على قيم نبيلة، وكذا التلّ المخروطي المُتَخَيَّل.

    إنّ تشوّهات الحاضر جعلت القاصّ - على طول المجموعة - ينقل الأحداث بطريقة حذرة ومؤدلَجة قرّبتْها من عوالم (الصور الذّهنيّة) القائمة على تصوّراتٍ كوّنتْها التّجارب، ويصدقُ ذلك على حكاية (جمعيّة المقاهي الليليّة) التي تحيلُ بلغة الغِياب إلى (الملاهي الليليّة) على سبيل السّخرية من سلوك مجموعة من الأدباء وقت الاحتلال الأمريكي للعراق مقارنًا بين سلوكهم وسلوك أدباء أوروبا بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية.

    أخيرًا أقول إنّ حكاية (التلّ المخروطي) مثالٌ إبداعي متقدّم في الأداء السّردي للحكاية؛ فهي قائمة على نوع مختَرَع من التّشويق قوامُهُ أحداثٌ حقيقيّة مُخَيَّلَة ترتبط بالتفكير الجمعيّ للمجتمع العراقيّ.

المشـاهدات 274   تاريخ الإضافـة 23/08/2025   رقم المحتوى 65935
أضف تقييـم