النـص : يقال أن راعياً شعر بقرب أجله فوقف أمام أغنامه فقال لهم: أطلب منكم أن تبرؤوني الذمة؛ لأني أحلبكم، وأجز صوفكم، وأبيعكم للذبح، أجابه الكبش الكبير لا تهتم، نبرؤك الذمة؛ لأننا خلقنا لهذا الغرض، ثم توجه الراعي إلى الإبل وطلب منهم براءة الذمة قائلاً: أتعبتكم كثيراً في الصحراء، أحمل عليكم الأثقال، واركب على ضهوركم، ومن يكبر منكم أو يضعف أذبحه وآكل لحمه، أجابه الجمل الكبير قائلاً: لا تهتم نبرءك الذمة على كل ذلك، هذا واجبنا الذي خلقنا من أجله، ولكننا لا نبرءك الذمة على شيء واحد فقط، سألهم الراعي وما هو؟ أجابه الجمل، لماذا عندما تسير القافلة تضع الحمار في المقدمة ويقودنا!! هذه القصة وأمثالها تعطينا موعظة بليغة ودرس كبير أن سبب كل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية وفي كل القطاعات وعلى كل المستويات هي سببها تصدر أشخاص غير مؤهلين لقيادة المؤسسات والدوائر الحكومية، فمن أسباب هذا التدهور الذي يعاني منه العراق في مختلف المجالات، وعجزنا عن تطوير الزراعة والصناعة والتربية والتعليم وتنمية الاقتصاد وتقديم أفضل الخدمات للمواطنين، واستثمار الثروات الهائلة التي يملكها العراق بما يعود نفعه على الشعب بأكمله، فنقضي على البطالة والفقر، ونزيد الدخل القومي، ونرفع حصة المواطن منه، وتحقيق ذلك ليس بالأمر الصعب وإنما هو منوط بوضع الأشخاص في أماكنهم التي يستحقونها، فضلاً عن وجود الإرادة السياسية للنهوض بالبلد. إن من أسوء ما يعاني منه العراق هو المحاصصة بكل أنواعها من سياسية، وحزبية، وقومية، وطائفية في توزيع المناصب والمسؤوليات، هذه المحاصصة التي قتلت حلم بناء دولة قوية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية نفخر بها بين الدول، هذه المحاصصة حطمت آمال الشعب في عيش كريم في بلد يملك ثروات هائلة، هذه المحاصصة جعلت من يحمل شهادة العلوم السياسية يقود وزارة الكهرباء! والمهندس يقود وزارة الداخلية! وقس على هذا الكثير، هذه المحاصصة السياسية، والحزبية، والطائفية، والقومية كانت سبباً رئيساً في الفساد الإداري والمالي الذي يعاني منه العراق، فهذا المنصب لهذا الحزب، أو لهذه الطائفة ، أو لتلك القومية، وبهذا قضينا على التخصص في تولي المناصب والمسؤوليات، وأقصينا التدرج الوظيفي في الوزارات والدوائر ، هذين الامرين أعني -التخصص والتدرج الوظيفي- هم سببا النجاح في كل القطاعات وعلى كل المستويات ابتداءً من أصغر مسؤولية وهي مسؤولية إدارة وحدة أو شعبة في دائرة صغيرة وصولاً إلى أعلى هرم في المؤسسات القطاعية وهو الوزير، التخصص يجعل المسؤول يعرف مهامه وأعماله، والتدرج الوظيفي في المناصب يكسب الموظف خبرة ومهارة لا غنى عنها، هذه الخبرة لا تأتي بيوم وليلة، وإنما هي حصيلة عمل طويل، وتجارب كثيرة، وممارسة مستمرة، وسنوات قُضيت بالعمل في قطاع معين. إن من ثمرات التخصص والتدرج الوظيفي الانتاج، والابداع، والتميز. أما المحاصصة المقيتة بكل صنوفها وأنواعها لم تجلب للبلد إلا المزيد من الفساد والفشل، وتعميق الانقسامات الطائفية والقومية في المجتمع العراقي، وقتل روح المواطنة والاعتزاز بالوطن، كما قضت على الكفاءة والاخلاص في العمل، فالموظف سيصل إلى نتيجة صادمة مفادها أن شهادته وكفاءته العلمية، وخبرته العملية، وسنوات عمره التي سيقضيها بالعمل الوظيفي لا فائدة منها؛ لأن المناصب والمسؤوليات في الأخير ستقلد على أساس الانتماء الحزبي، أو الطائفي أو القومي، فهذه الأمور هي من توصله إلى مبتغاه! وهنا الطامة الكبرى؛ لأن هذا الأمر سيحبط الكثير من الموظفين فينعدم عندهم أو يضعف لديهم روح الحماس في العمل والابداع والتميز فيه. والكلام عن غياب التخصص واقصاء التدرج الوظيفي في الدولة ومؤسساتها ليست حالات فردية وإنما هي ظاهرة ماثلة للعيان، وكلنا سمعنا بترشيحات السفراء - الذين يعدون واجهة العراق ويمثلون الدولة والشعب بأكمله- كيف تمت هذه الترشيحات على أساس المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية دون اعتبار للتخصص والتدرج الوظيفي! المحاصصة بكل اصنافها جعلت الموظف ينسب من وزارة إلى وزارة أخرى ليتولى منصب فيها، وكأن الوزارة الأخيرة عجزت عن أن تخرج من بين منتسبيها من يتولى هذا المنصب أو ذاك!! وصل الحال بنا أن يتولى طبيب جراح منصب إداري ومالي ليس في وزارة الصحة وإنما في مؤسسة أخرى بعيدة كل البعد عن تخصصه وتخصص وزارته الأصلية، يتولى موظف من وزارة التربية أو وزارة التعليم منصب في ديوان المحافظة الفلانية! أما كان الأولى لموظفي هذا الديوان أو تلك المؤسسة أنهم يتولون هذه المناصب في دوائرهم ومؤسساتهم أليس هم أحق بذلك؟ أين التخصص وأين التدرج الوظيفي من ذلك؟! هل يجوز لمهندس أن يدير الشؤون القانونية، أم هل يجوز للقانوني أن يفحص المرضى ويعالجهم؟! إن غياب التخصص واقصاء التدرج الوظيفي أمر خطير يزيد من الفساد المستشري في البلد، ويقتل روح المنافسة والابداع والتميز بين الموظفين، ويؤسس للإهمال الوظيفي وعدم المبالاة، ويضعف الأمانة والإخلاص في العمل الوظيفي. فإذا أردنا النهوض بمؤسساتنا وقطاعاتنا المختلفة علينا أن نعيد التخصص والتدرج الوظيفي إلى الواجهة، والمثل الشعبي العراقي يقول: اعط الخبز لخبازته لو أكلت نصه!!
|