الثلاثاء 2025/10/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 21.95 مئويـة
نيوز بار
صناديق الاقتراع وإرث السلطة
صناديق الاقتراع وإرث السلطة
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يتأهب العراقيون للعودة إلى صناديق الاقتراع في موعد سياسي لا يخلو من الرمزية. فمنذ عام 2003 اعتاد البلد الدورات الانتخابية، غير أنّ هذه المحطة تبدو محمّلة بانتظار مختلف؛ أكثر من 21 مليون ناخب مسجل يقفون أمام فرصة جديدة، وسط زخم من الأحزاب والتحالفات والمرشحين المستقلين. هذه المرة، تتعالى التوقعات بارتفاع المشاركة، بعدما أدرك كثيرون أن العزوف لا يجلب سوى إعادة تدوير ذات النخب.

 

غير أنّ الأمر لا يتصل بثورة على النظام بقدر ما يعكس محاولة لإعادة ترتيب موازين داخل بنية قائمة وراسخة. فـ"المحاصصة" التي شكّلت أساس التوازن بين المكونات الطائفية والإثنية لم تعد مطروحة للتفكيك بقدر ما صارت مجالًا للمراجعة والتعديل، بحيث تعيد الانتخابات إنتاج السلطة، لكن بوجوه جديدة وربما بخطاب أقل استهلاكاً. وهنا يكمن التحدي الأكبر: كيف يمكن الجمع بين توق شعبي إلى إصلاح ملموس وبين منظومة متجذّرة لا تتخلى بسهولة عن امتيازاتها؟

 

في هذا السياق يطلّ السيد محمد شياع السوداني بوصفه الشخصية الأكثر حضوراً. فمنذ توليه رئاسة الوزراء عام 2022، قدّم نفسه بصورة مختلفة عن الساسة التقليديين. ليس ثائراً يطرح انقلاباً على قواعد اللعبة، بل إدارياً عملياً يجيد الموازنة بين المصالح المتناقضة: بين واشنطن وطهران، بين الدولة والفصائل، وبين صوت الشارع وضغوط النخب. هذه القدرة على المناورة صنعت له ما يمكن وصفه بـ"الشرعية المرنة" التي قد تتحول إلى مكاسب انتخابية ملموسة.غير أنّ موقعه يبقى محاطاً بتعقيدات، فحزبه لا يملك سوى مقعدين في البرلمان الحالي، الأمر الذي يفرض عليه التعامل مع الإطار التنسيقي وقواه التقليدية، بعضها ينظر إليه بحساسية، فيما يراهن هو على تحويل هذه الشراكة إلى رافعة سياسية تعزز موقعه بدل أن تقيّده.

 

السوداني يحاول الآن أن يوسّع أفقه عبر "تحالف الإعمار والتنمية"، وهو ائتلاف يضم تكنوقراط وقوميين وزعامات عشائرية ووجوهاً خرجت من ظل المالكي وغيره من رموز المرحلة السابقة. الرهان أن يحصد ما يكفي من المقاعد ـ خمسين أو سبعين ربما ـ ليكون اللاعب الأول في مفاوضات ما بعد الانتخابات. عندها قد يصبح قطباً مركزياً قادراً على إعادة رسم الخريطة، خصوصاً إذا نال، ولو بشكل غير مباشر، إشارة رضا من السيد مقتدى الصدر، بما لذلك من ثقل في الشارع الشيعي وموازين القوى.

 

لكن السوداني ليس حكاية فردية بقدر ما هو انعكاس لمعضلة النظام العراقي نفسه. فهو يسعى لتقديم نفسه كمسار ثالث داخل البيت الشيعي، بين خط الولاء لإيران الذي يمثله بعض فصائل الإطار، وبين النزعة الشعبوية التي يقودها الصدر. إلا أنّ أدواته ما تزال مقيدة بسقف اللعبة الراسخة: وزارات تتحول إلى حصص حزبية، موارد الدولة مرهونة بشبكات المحسوبية، وإعلام موجّه يخدم مصالح القوى النافذة. في ظل هذه المعطيات، تبدو مهمته في خوض مواجهة كبرى ضد الفساد أو تقليص نفوذ البعض محفوفة بالصعوبات، رغم مؤشرات ظهرت مؤخراً على استعداده لمساءلة بعض القوى الخارجة عن الضبط.

 

الانتخابات المقبلة إذن أبعد من مجرد منافسة على مقاعد. هي اختبار لقدرة السوداني على تحويل شعبيته إلى سلطة مستقرة، وعلى كسر نمط التفاهمات التقليدية. مشروعه لتحقيق الاكتفاء الطاقوي بحلول 2027، على سبيل المثال، يكشف طموحاً قد يغيّر المعادلة الاقتصادية إذا حظي بالغطاء السياسي الكافي. لكن الطموح يقابله واقع ضاغط: تضخم الإنفاق العام، اختلال الاقتصاد، واستحقاقات مالية قد تفرض قرارات صعبة تمس المواطن مباشرة.

 

وعلى مستوى أوسع، تكشف هذه الانتخابات عن صراع رؤيتين لمستقبل العراق: رؤية تريد ترسيخ مؤسسات الدولة وإنعاشها تدريجياً، وأخرى تتمسك ببقاء القوى الاخرى كلاعب موازٍ، بما يحمله ذلك من نفوذ إقليمي متشابك. وبين الرؤيتين يقف شارع عراقي أتعبته خيبات العقدين الماضيين لكنه لم يفقد إيمانه بجدوى التغيير. فإرث احتجاجات تشرين لم ينطفئ بعد، والوعي الشعبي بات يدرك أن التغيير لا يأتي من المقاطعة بل من تحويل الصوت الانتخابي إلى أداة ضغط وموازنة.

 

العراق اليوم يتأرجح بين واقع جامد ورغبة صاعدة. من الصعب أن تهزّ الانتخابات أركان النظام، لكنها قد تعيد توزيع القوة داخله بطرائق مؤثرة. فإذا تمكّن السوداني من تكريس نفسه كوسيط لا غنى عنه، قد يفتح الباب أمام إصلاح تدريجي يمنح الدولة فرصة جديدة للاستمرار.أما إذا واجهت خطواته عراقيل كبرى، فقد يجد العراقيون أنفسهم أمام مشهد سياسي مألوف، حيث تستمر الوجوه والقوى ذاتها بالتحرك تحت عناوين جديدة.

 

الرهان الحقيقي، في نهاية المطاف، ليس في صناديق الاقتراع وحدها، بل في ما بعدها: في قدرة العراقيين على تحويل أصواتهم إلى قوة سياسية ضاغطة، وفي مدى استعداد النخب لتقديم تنازلات أمام هذا الضغط. فقد أثبت التاريخ القريب أن الإصلاح في بغداد لا يُمنح من فوق، بل ينتزع من الشارع حين يفرض نفسه شريكاً لا يمكن تجاهله.

المشـاهدات 84   تاريخ الإضافـة 08/10/2025   رقم المحتوى 67134
أضف تقييـم