
![]() |
البيروقراطية وتدهور التعليم |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
تعود جذور كلمة البيروقراطية إلى الكلمة الفرنسية بيرو، وتعني "المكتب"، وقد استخدمت في بدايات القرن الثامن عشر للدلالة على أماكن العمل والإدارة، ثم لحقتها كلمة كراتوس الإغريقية التي تعني "السلطة"، فاجتمعت الكلمتان لتشكلا معنى "سلطة المكتب" أو "قوة الإدارة". وهي في جوهرها نظام إداري يعتمد على الهيكل الهرمي وتوزيع المسؤوليات والقواعد الموحدة، بهدف تحقيق الانضباط والكفاءة داخل المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء.إلا أن هذا النظام، الذي صُمم أساسًا لتنظيم العمل وضمان العدالة والكفاءة، انقلب في كثير من الأحيان إلى عائقٍ أمام التطور. فبدلاً من أن تكون القوانين وسيلة لتحقيق الأهداف، أصبحت غاية بحد ذاتها. وغدت الإجراءات أثقل من الفكرة، والنظام أبطأ من الحاجة، فتحولت البيروقراطية إلى متاهة من الأوراق والتعليمات التي تخنق الإبداع وتقتل المبادرة. وهكذا ضاعت الأهداف التربوية بين الملفات المختومة والقرارات المؤجلة.في المؤسسات التعليمية، يظهر أثر البيروقراطية بوضوح، حين يُختزل عمل التدريسي في الالتزام الحرفي بالقوانين بدلاً من السعي لتحقيق رسالة التعليم. فالمعلم الذي يخشى مخالفة التعليمات لن يغامر بفكرة جديدة، ولن يخرج عن الإطار المرسوم، حتى لو كانت مصلحة طلابه تقتضي ذلك. وهنا تفقد المدرسة روحها، ويتحول التعليم إلى تكرار روتيني بلا حياة، هدفه إكمال الإجراءات لا بناء العقول.تدهور التعليم لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة تراكم مشكلات متشابكة، تبدأ من الإدارة وتنتهي بالصف الدراسي. ففي العراق، كما في كثير من الدول العربية، يعاني التعليم من ضعف التمويل، ونقص التجهيزات، وغياب الرؤية الواضحة، إلى جانب البيروقراطية الثقيلة التي تُعطل أي إصلاح حقيقي. كيف يمكن لمنظومة مثقلة بالأوامر والتعليمات أن تُواكب التغيرات السريعة في العالم؟ وكيف لمعلمٍ أنهكه الروتين أن يزرع في طلابه روح الإبداع والانفتاح؟أما المناهج الدراسية، فغالبًا ما تبدو بعيدة عن واقع الحياة، جامدة لا تتغير، لا تراعي ميول الطلاب ولا تحفز قدراتهم. والأساليب التعليمية ما زالت تعتمد على التلقين والحفظ بدلاً من الحوار والتفكير النقدي. أضف إلى ذلك اكتظاظ الصفوف، وضعف تدريب المعلمين، والتسرب الدراسي الناتج عن الفقر والظروف الاجتماعية الصعبة، فيصبح التعليم عبئًا بدل أن يكون أملًا.وفي عمق هذه الصورة تتداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والشخصية، فالفقر يحرم الكثيرين من بيئة دراسية مستقرة، والضغوط الأسرية تنعكس على تحصيل الطلاب، بينما يواجه آخرون صعوبات في التعلم أو ضعفًا في التكيف داخل المدرسة. ومع غياب الدعم والرعاية، تتحول المدرسة من فضاء للتنمية إلى مكانٍ لتكرار الفشل.إن البيروقراطية حين تتسلل إلى التعليم، فإنها لا تكتفي بتعطيل القرارات، بل تُصيب الفكر بالجمود. التعليم في جوهره فعل إنساني حي، لا يمكن أن يزدهر في بيئة جامدة تحكمها الورقة والختم. الإصلاح الحقيقي يبدأ عندما نستعيد روح المهنة، ونضع الإنسان قبل النظام، ونحوّل الإدارة إلى خادم للفكرة لا سجانٍ لها.فالأمم لا تبنى بالأنظمة وحدها، بل بالعقول التي تعرف كيف تُعيد للنظام معناه، وللتعليم رسالته. وما لم تتحرر مدارسنا وجامعاتنا من قبضة البيروقراطية الثقيلة، سيبقى الإبداع غائبًا، وسيبقى التعليم يدور في فلك الورق بدلاً من أن يضيء درب الغد. |
المشـاهدات 79 تاريخ الإضافـة 12/10/2025 رقم المحتوى 67233 |