الأربعاء 2025/10/15 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 16.95 مئويـة
نيوز بار
تأملات في تاريخ الحضارة والإنسان
تأملات في تاريخ الحضارة والإنسان
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

يختلط على كثيرٍ من الناس معنى الحضارة والمدنية، فيحسبون الأولى مظهراً عمرانياً أو تطوراً تقنياً، بينما هي في حقيقتها قيمة إنسانية عميقة، تنبثق من الروح والعقل قبل أن تتجلى في الحجر والمعمار.

 

الحضارة هي منظومة القيم التي تهذّب الغريزة، وتوجّه العقل، وتسمو بالإنسان فوق ذاته. أما المدنية، فهي الصورة المادية لتلك القيم، ثوبٌ خارجيّ قد يلمع وإن خلا من الجوهر.

 

لهذا، ليست كل مدنية حضارة، وإن كانت كل حضارة قادرة على أن تلد مدنيات متتابعة تشهد على ازدهارها.

 

يُحب الأوروبيون أن يسمّوا قارتهم بـ "القارة العجوز"، وكأن في الشيخوخة دلالة الحكمة. غير أن التاريخ يخبرنا بغير ذلك؛ فالرومان والإغريق – على ما قدّموه للبشرية من فنون وفكر – لم يكونوا أبناء أوروبا الشمالية، بل من حضارة البحر الأبيض المتوسط، حضارةٍ منفتحة على الجنوب والشرق، على ضفاف النيل ودجلة والفرات.

 

أما أوروبا الشمالية، فقد بقيت قرونًا في بداوتها، لا تعرف من العلم إلا صدى الحروب والصراعات. ويكفي أن نعود إلى الإدريسي في القرن الثاني عشر، حين وصف أقوام الفرنج بأنهم "قوم بدائيون همج".

 

لكن المفارقة أن هؤلاء الهمج غزوا العالم لاحقًا، وفرضوا أنفسهم على التاريخ بقوة الحديد والنار، لا بالعلم ولا بالفكر.

 

لقد انتصرت المدنية المسلحة، لا الحضارة الواعية.

 

وفي الجهة الأخرى من العالم، انطلق التتار من البداوة أيضًا، لكنهم حين لامسوا نور الإسلام، استقامت فطرتهم، فانبثقت منهم حضارة سامقة امتدت إلى الهند، وأنجبت تاج محل وغيره من الشواهد الخالدة.

 

تلك هي الفطرة حين تُروى بالإيمان، تُنتج حضارة، لا غزواً.

 

وهنا تتجلى المفارقة الكبرى:

 

قد يغزو الجاهل العالِم، وقد ينهزم المتحضر أمام البدائي، لكن التاريخ لا يكرّم إلا من بنى الإنسان، لا من هدمه.

 

هذه المفارقة تتكرر اليوم في صورةٍ أخرى، في أمريكا — تلك البلاد التي خرجت من رحم المهمَّشين في أوروبا، لا من فلاسفتها ولا من نبلائها، بل من رعاعها الهاربين من ظلم الإقطاع وكهنوت الكنيسة.

 

ومن تلك الطبقات وُلدت ثقافة جديدة، ظاهرها علمٌ وتقدّم، وباطنها رعوية مغلّفة بالتكنولوجيا.

 

فكم من أستاذ جامعيّ هناك، ينهار قناعه الحضاري في لحظةٍ حين يرى إنسانًا أسود البشرة أو عربيّ الملامح!

 

العلم عندهم لم يطهّر النفس، بل زيّن المظهر. والمدنية التي يتباهون بها لم تُبنَ على قيم، بل على نفعيةٍ باردة ترى الإنسان أداة إنتاج لا أكثر.

 

وفي خضم هذا البريق الصناعي، يعيش الغرب شيخوخةً ديموغرافية تهدد وجوده.

 

فحين ينخفض معدل المواليد إلى ما دون (1.8)، يبدأ العَدّ التنازلي لأمةٍ حكمت على نفسها بالانقراض الهادئ.

 

ولذلك صاروا يفتحون أبوابهم للهجرة، لا حبًا في التنوع، بل حاجةً اقتصادية تفرضها عجلة الحياة.

 

فباسم الاقتصاد تُمنح التأشيرات، وباسم القانون يُوزّع الانتماء.

 

وها هي بريطانيا اليوم يحكمها رجل من أصول هندية؛ مشهدٌ لم يكن يخطر ببال أجدادهم الذين استعمروا الهند يومًا باسم “تمدينها”.

 

التاريخ يدور دورته… وكأنما يسخر من نفسه.

 

أما العالم العربي والخليجي، فيقف عند مفترقٍ آخر من مفارقات الحضارة.

 

نملك الموارد، ونعيش في زمن الوفرة، لكننا نعاني من سوء الإدارة والقصور في التخطيط.

 

نستقدم ملايين الوافدين لنعمر بهم المدن، ثم نترك أبناءنا على أرصفة البطالة.

 

الخلل ليس في قلة الفرص، بل في غياب الرؤية؛ في نظامٍ يفرّق بين "العاطل" الذي لا يجد عملاً، و"المُعطَّل" الذي حُرم من العمل رغم أهليته.

 

فكيف تبني حضارة وأنت لم تبنِ الإنسان الذي يحملها؟

 

الحضارة الحقيقية لا تُقاس بما نملك من ثروات، ولا بما نشيّده من أبراج.

 

إنها تُقاس بقدرتنا على أن نسمو فوق الغريزة، ونحفظ للإنسان كرامته، ونحوّل المدنية من جسدٍ جامد إلى روحٍ حيّة.

 

التاريخ ليس فصولًا تُروى، بل مرآة تُظهرنا كما نحن:

 

منّا من يسكن القصور، لكنه في داخله ما زال في الكهف،

 

ومنّا من يعيش في صحراء، لكنه يحمل في قلبه حضارة العالم.

 

إن الحضارة لا تبدأ من المعمار، بل من الفكر.

 

ولا تنمو بالمال، بل بالقيم.

 

وكل حضارةٍ لا تُقيم وزنًا للإنسان، مصيرها أن تندثر مهما علت صروحها.

 

فحين نبني الإنسان، نبني التاريخ معه…

 

وحين نغفل عنه، ينهار كل شيء، ولو أضاءت المدينة ألف مصباح.

المشـاهدات 26   تاريخ الإضافـة 15/10/2025   رقم المحتوى 67366
أضف تقييـم