الصين..قوة إمبريالية أم قوة ناعمة؟قراءة في القوة الدولية
![]() |
| الصين..قوة إمبريالية أم قوة ناعمة؟قراءة في القوة الدولية |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب سالم رحيم عبدالحسن |
| النـص : حين تتقدّم الأمم بهدوء لا يعني ذلك أنها بريئة من الطموح، فالقوة قد تكون صاخبة كما قد تكون ناعمة. والصين اليوم تمارس حضورها العالمي بنبرة منخفضة ولكن عميقة التأثير. إنها تسير بخطى ثابتة نحو موقع الصدارة في النظام الدولي الجديد، ضمن معادلة دقيقة تجمع بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، وتعيد تعريف النفوذ خارج منطق الصراع العسكري إلى منطق الهيمنة الهادئة.لقد عُرفت الصين عبر التاريخ بانغلاقها الطويل على العالم، إذ كرّست هذا الانكفاء ببناء سور الصين العظيم ليكون رمزًا للحماية والعزلة في آنٍ واحد. كانت حضارة شبه مغلقة على الخارج، تحمل خصوصيتها الثقافية والحضارية، وتتعامل مع الآخر بحذر متوارث، الأمر الذي جعلها لقرون تكتفي بذاتها وتعيش داخل حدودها دون احتكاك مباشر بالعالم الخارجي. غير أنّ هذا الانغلاق تحوّل مع الزمن إلى طاقة داخلية مكّنتها من النهوض مجددًا في العصر الحديث، لتتحول من حضارة منغلقة إلى قوة منفتحة تدير علاقتها بالعالم بوعي تاريخي عميق.مع نهاية القرن العشرين، أدركت الصين أنّ القوة لا تُقاس فقط بحجم الجيوش أو الترسانة النووية، بل بمدى النفوذ الثقافي والاقتصادي. فبدأت تنفتح على العالم وفق إستراتيجية دقيقة تجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية الناعمة. لم تعد الجدران الحجرية هي التي تحميها، بل جدران رقمية واقتصادية تمتد عبر القارات من خلال مبادرة “الحزام والطريق” التي تمثل أحد أهم مشاريع القرن في إعادة رسم خرائط النفوذ والتجارة العالمية.إن فهم سلوك الصين في السياسة والاقتصاد لا يكتمل دون التوقف عند الجذور الفلسفية التي تشكّل وعيها الجمعي. فالصين تقع تحت تأثير عدة قوى فكرية متشابكة: الكونفوشيوسية التي تقوم على الانضباط الأخلاقي واحترام النظام والسلطة، والطاوية التي تميل إلى التوازن والانسجام مع الطبيعة، والماركسية التي أضافت البعد الطبقي والثوري وتبنّتها الدولة في إطار الشيوعية الحديثة. ورغم تبنّي الصين نهج السوق الحر وتحولها إلى قوة اقتصادية رأسمالية في الممارسة، إلا أنها ما زالت تحتفظ بالعقيدة الشيوعية كإطار فكري يوجّه قراراتها السياسية والاجتماعية. هذا المزيج الفلسفي جعل التجربة الصينية فريدة؛ فهي توظف الحرية الاقتصادية تحت رقابة الدولة، وتستخدم الأيديولوجيا كأداة انضباط وشرعية في آن واحد، لتوازن بين الفكر والمصلحة، والعقيدة والبراغماتية.تسعى الصين من خلال الاستثمار في البنى التحتية والموارد في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتثبيت حضورها العالمي دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر. إنها تسوّق نموذجها التنموي القائم على الشراكة لا السيطرة، لكنها في الوقت نفسه تضع الدول النامية أمام واقع جديد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل الذي قد يتحول لاحقًا إلى تبعية من نوع آخر. فالقوة الناعمة عند الصين ليست شعارًا بل منهج مدروس، يغلّف المصالح الاقتصادية بثوب التعاون والمساعدة، ويفتح الأسواق بهدوء أكثر مما تفعله الأساطيل الحربية.تقدّم الصين نفسها كقوة بديلة عن الغرب، مستندة إلى خطاب يقوم على احترام السيادة وعدم التدخل، لكن هذا الخطاب لا يخلو من تناقضات. فالتغلغل الاقتصادي واحتكار بعض الأسواق الحيوية يثير تساؤلات: هل تمارس الصين إمبريالية اقتصادية ناعمة؟ أم أنها تسعى لتأسيس نظام عالمي أكثر توازنًا في مواجهة الهيمنة الغربية؟ الصين التي ترفض منطق الهيمنة الأمريكية، تسعى في الوقت نفسه إلى بناء هيمنة موازية، أكثر هدوءًا ولكن لا تقل عمقًا، تستبدل المدافع بالموانئ، والاحتلال بالاستثمار، والجنود بالمهندسين.يأتي صعود مجموعة بريكس (BRICS) ليعزز هذا التوجه، إذ تمثل المنظومة بوادر تحالف اقتصادي وسياسي يعيد رسم موازين القوى في العالم. الصين من خلال بريكس لا تحاول كسر النظام العالمي فحسب، بل إعادة صياغته وفق مفاهيم جديدة للقوة والمصالح، لتكون في قلب القرار الدولي القادم. فهي تتعامل مع حلفائها في الجنوب العالمي بمنطق الشراكة لا التبعية، وتطرح نفسها كقائد اقتصادي بديل للنظام الرأسمالي الغربي، دون التخلي عن براغماتيتها السياسية أو حلمها الإمبراطوري الهادئ.إن تجربة الشركات الصينية في العراق، وخاصة في قطاع الطاقة، تتأرجح بين النجاح والتوجس. نجحت في تنفيذ مشاريع ضخمة ضمن عقود التراخيص النفطية وأسهمت في إنعاش البنية التحتية، لكن الحذر الشعبي والسياسي من النفوذ الخارجي يجعل العلاقة محكومة بميزان دقيق بين الحاجة إلى التنمية والحرص على السيادة. وفي هذا الإطار، حاولت حكومة عادل عبد المهدي توطيد العلاقة مع الصين عبر تعزيز الشراكات الاقتصادية وفتح مجالات للاستثمار الصيني في العراق، بهدف استقطاب خبراتها وتمويل مشاريع البنية التحتية وخلق توازن بين النفوذ الغربي والفرص الاقتصادية الآسيوية. غير أن هذه الجهود واجهت عقبة كبيرة تمثلت في الدور الأمريكي في الضغط على الحكومة وإسقاطها، ضمن سياسة تقليص النفوذ الصيني وتأكيد الهيمنة الأمريكية على القرار العراقي. أدى هذا التدخل إلى تعطيل بعض المشاريع وفرض قيود سياسية واقتصادية، الأمر الذي أعاد العراق إلى موقع هش في إدارة خياراته الدولية، لكنه في الوقت نفسه أبرز أهمية البحث عن شركاء استراتيجيين بعيدًا عن التبعية المطلقة لأي طرف خارجي. العراق، وهو يبحث عن شريك اقتصادي لا سياسي، يجد في الصين نموذجًا غير تقليدي للتعاون، لكنه يدرك أن لكل نفوذ ثمنًا، حتى وإن كان ناعمًا.الصين اليوم ليست الدولة المنغلقة خلف الأسوار، ولا القوة الغازية المتعجرفة، بل إمبراطورية هادئة تنسج نفوذها بخيوط الاقتصاد والثقافة والرمزية الحضارية. إنها تمارس قوتها الناعمة بذكاء استراتيجي، وتجعل من الصعب على المراقب التمييز بين الطموح المشروع والهيمنة المقنّعة. إنها قوة تتحدث بلغة التاريخ، وتتحرك بصمت، تفرض حضورها بلا ضجيج، وتعيد رسم ملامح العالم بلا حرب. وفي ظل التحولات الكبرى، علينا أن نفهم أن العالم يقف عند منعطف تاريخي سيغير خارطة القوة في النظام الدولي الجديد، ولذلك يجب علينا اختيار حلفاء المستقبل بعين واعية وبصيرة تتجاوز اللحظة. |
| المشـاهدات 226 تاريخ الإضافـة 05/11/2025 رقم المحتوى 68022 |
توقيـت بغداد









