حين يتعب الكلام من السياسة
![]() |
| حين يتعب الكلام من السياسة |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
في زمنٍ صار فيه الكلّ يفسّر العالم بلغة واحدة، تبهت الألوان الأخرى.
كلّ حدثٍ يُقرأ من نافذة السياسة، حتى المطر لم يعد مطراً، بل مؤامرة موسمية أو علامة اقتصادية على وفرةٍ أو جفاف. والكتابة، التي وُلدت لتفتح الأفق، صارت تُسحب إلى أسفل، تُحاكم بمعايير لا تخصها، وتُسجن داخل الأسئلة الخاطئة: من معك؟ من ضدك؟
الأدب لا يعرف هذه الثنائية. إنه لا يسعى إلى انتصارٍ على أحد، بل إلى انتصارٍ على العتمة.
فبينما تصنع السياسة خطابها من الصراخ والتوجيه، ينسج الأدب لغته من الإصغاء والدهشة.
السياسة تحتاج إلى جمهورٍ يُصفّق، أما الأدب فيحتاج إلى قارئٍ يَصمت ليفهم.
الأدب، في جوهره، تجربة تأملية لا تقبل التبشير.
يقترب من الواقع لا ليصفه كما هو، بل ليكشف ما يختبئ تحته: الأصوات الخافتة، الخيالات التي لا تجد من يراها، الأسئلة التي لم تجد طريقها إلى المنابر.
إنه ليس مضاداً للحياة، بل محاولةٌ لفهمها حين يكثر من يتحدث عنها من دون أن يعيشها.
لكننا نعيش زمناً غريباً، صار فيه “الصالون الثقافي” بديلاً عن التجربة، والمقهى بديلاً عن الميدان.
يتحدث بعض الكتّاب كما لو أن العالم كله خريطة سياسية واحدة، يوزّعون التحليلات كما تُوزّع النكات. يكتبون عن الجنود من وراء الدخان، وعن الفقراء من فوق الأرائك، وعن الوطن كما لو أنه فكرة مجردة لا تعبُر الأسواق ولا تمرّ من أمام بيوت الأرامل.
أولئك الذين يعرفون كل شيء عن كل شيء، ولا يعرفون مواعيد صمتهم الشخصي.
الواقع، كما يعرفه الأدب، لا يُرى بالعين، بل بالبصيرة.
ما يظهر على السطح مجرد غلاف هشّ، أما الحياة الحقيقية فتمور في العمق: في المطبخ، في الشارع، في لحظة خوفٍ لا يراها أحد.
ومن هنا يولد الأدب، من مراقبة ما يُهمَل، من إصغاءٍ طويلٍ لما لا يُقال.
ولأن الأدب يذهب إلى ما وراء الكلمات، فهو لا يقف في مواجهة أحد، بل في مواجهة التكرار والسطحية والنسيان.
إنه لا يعادي السلطة ولا يغازلها، بل يتجاوز حدودها إلى فضاءٍ أوسع، حيث تصبح الكلمة ملكاً للوعي الإنساني وحده.
فالكاتب حين يكتب، لا يكتب ليدين أو يُبرّر، بل ليُضيء ما خفي، ويذكّر بأن الفكر أوسع من المواقف، وأن الجمال شكلٌ من أشكال الفهم لا من أشكال المعارضة.
ولأن العالم يزدحم بالشعارات، تصبح الكلمة الصادقة عملًا نادراً.
الكاتب الحقيقي لا يصرخ، بل يُنصت. لا يوزّع الأحكام، بل يفتح باب الشكّ على مصراعيه.
هو لا يطلب من أحد أن يصدّقه، بل أن يرى العالم بعينٍ مختلفة.
حين يتعب الكلام من السياسة، يلجأ إلى الأدب ليغتسل من الغرض،
ليتذكّر أن اللغة كانت يوماً بيتاً للروح، قبل أن تتحوّل إلى منصة للجدال.
وحين يعود الأدب إلى مكانه الطبيعي، إلى الإنسان،
يكتشف القارئ أن الحقيقة لا تُقال في البيانات، بل تُحسّ في الجمل التي تُكتب بصمت القلب. |
| المشـاهدات 33 تاريخ الإضافـة 13/11/2025 رقم المحتوى 68246 |
أخبار مشـابهة![]() |
الضوء كما لم نره من قبل في مكتبة محمد بن راشد
|
![]() |
يصدر طبعة خاصة من كتاب ((يوسف شاهين نظرة الطفل.. وقبضة المتمرد)) للناقد إبراهيم العريس
مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية يحتفي بـ((يوسف شاهين حدوتة مصرية)) |
![]() |
كري سعده.. واحدة من المعالم التراثية التي كانت تزخر بها الكوفة
|
![]() |
مقتطفات من افتتاحيات الدستور
|
![]() |
من يقف وراء الاختناقات المرورية التي تعالي منها العاصمة بغداد ؟!
|
توقيـت بغداد









