تجليات الوعي الثقافي والسرد التاريخي
![]() |
| تجليات الوعي الثقافي والسرد التاريخي |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص :
د. سمير الخليل منذ عتبة العنوان والاستهلال تضعنا رواية (مطر الله) لهدية حسين، إزاء واقع اجتماعي وسياسي مأزوم بشخصيّاته وتناقضاته وأوجاعه واستلاباته إذ تقدّم مشاهد بانورامية تمزج بين ثنائية اليومي والتاريخي، وبين هموم ومكابدة الشخصيّات التي تسعى لتحقيق ذاتها في خضم صراعات اجتماعية وسايكولوجيّة وقيميّة ووجودية وفكريّة، ولم يكن الفضاء أو التجسيد السردي مجرّد كواقع اجتماعي متخيل أو افتراضي، بل كشفت الرواية عن واقعيّة عميقة ومفرطة للتوغّل في الشخصيّات الشعبيّة، وفي القاع الاجتماعي، وهي ترصد الحياة والناس في أقدم أحياء بغداد ومجتمع الصرائف في (الصرافية) و(الميزرة) و(الشاكرية) و(السّدة) و(مدينة الثورة) والأحياء والكانتونات الشعبية التي تكاثرت مثل الأميبيا في العهد الملكي، وحاول العهد الجمهوري تنظيم واقع هذه العشوائيات التي عكست نمطاً متدنّياً من الحياة، وانتشرت تراجيديا شعبية تماهت أو شكّلت خطاً متوازياً مع وقائع وأحداث التاريخ السياسي (سقوط الملكية، قيام الجمهورية، انتكاس ثورة الزعيم، مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم، وقيام ثورة شباط، وانقلاب البعث الثاني 1968، وهيمنة الاستبداد والحروب العبثيّة) ويتوج هذا التاريخ العدمي بدراما الاحتلال وهيمنة الإرهاب والميلشيات والموت المجاني، وعصر تفجيرات الشوارع والمساجد والجامعات والكنائس والأسواق ومساطر العمال. إنَّ سيميائية العنوان تؤشّر إلى الأقدار والأحداث وكأنها مطر أسود يهمي على البشر، وهم يكابدون العيش والبحث عن السقوف في عشوائيات هشّة تشهد أقصى التناقضات والمفارقات والشخصيّات الغرائبية، ونلحظ الخطّين المتوازيين (الهمّ) و(السرد التاريخي)، وهناك بين الهمّ وسرديات الحياة اليومية والشعبية علاقة تآصرية إذ يكشف هذا السير المتوازي عن دلالات تاريخية وإنسانية دالة وعميقة، وتكشف العتبة الأولى وإشاراتها عن الهمّ التاريخي ودلالة المكان وأوجاع الوطن الموعود بالتراجيديا المتناسلة ولنتأمّل هذه العتبة: "وسوف يقرأ الناس في أرجاء الدنيا مدوّنات تقول: أن (بحر السواد) الممتد من جنوب تركيا حتى حدود الكويت الشمالية، ومن إيران شرقاً حتى الأردن غرباً، كان قبل مئات السنين أرضاً خصبة يجري فيها نهران عظيمان، وقامت عليها أربع حضارات عظيمة بفضل أقوامها متعدّدي الثقافات والأعراف الذين اخترعوا الكتابة وسنّوا أول قانون على الأرض عام 1800 ق م" (الرواية: 7). هذه العتبة هي أحد موجّهات الرواية، أو إشارة لمضمونها ومحتواها الإنساني والتاريخي، والأحداث والشخصّيات والمصائر المتناقضة والمأساوية والشخصيّات المستلبة أو المهيمنة كلها ترسم ملامح لعنة تشبه القدر الإغريقي الذي يلاحق البشر ويسد عليهم مسارات الحياة ويغرقهم في طواحين القمع والاستلاب والوجع، وطواحين الدم والحروب والموت العبثي وغياب البشر في دوامات الأقدار والتناقضات التي تسوقهم إلى المجهول. وتقدّم الرواية استهلالاً يجمع بين الواقع والحلم والكابوس وبصيغة السرد الذاتي وفي واقع زئبقي ضبابي، يقول الراوي: "من المؤكد أنْ أكون في حلم، إذ ليس ما يثبت عكس ذلك، فهذه البيوت والأزقة كانت قد اندثرت منذ زمن بعيد، وانتقل أهلها إلى مكان آخر حتّى أنّني أتذكّر اللّوريات والعربات التي اصطفت على السدّة وهي تمضي بالناس وأغراضهم إلى المساكن الجديدة وصادف أن مررت بالمنطقة مرّات ومرّات بعد ذلك الرحيل الجماعي، ولم يحدث أن قامت من غيابها الأبدي، لست محموماً ولم تأخذ الشيخوخة منّي الكثير لتختلط عليّ الأمور على هذا النحو، أنا الآن في كامل قواي العقلية ولا أشكّ في واقعية ما أرى، لكن ما أراه يخالف منطق الزمن لذلك أحيله إلى الأحلام، فبعضها يتفوق على الواقع في وضوحه، فيا أرض اصدقيني، كيف يمكن أن يعود الزمن إلى الوراء، هو الذي ما توقّف يوماً في مكان.."(الرواية: 9). وانطلاقاً من معطيات هذا الاستهلال وتداعياته فإنّ الرواية هي رواية (مكان) تبحث وتتوغّل في أحياء الصرائف البغدادية القديمة التي اختلطت فيها الأجناس البشريّة واخترقها الفقر والبؤس وضيق وبدائية البيوت والمساحات وكأنّها بقايا جماعات حضاريّة منكوبة وهي تشهد صراعا وجوديّا وسايكولوجياً، ويكتظ بها التناقض والاختلاف الحاد بين الشخصيّات، وتنبثق على أديمها المصائر الغرائبية، وتحوّلات الواقع والتاريخ وتحوّلات الشخصيّات التي يجرفها قانون التبدّل والتحوّل والانقلاب والانتقال من النقيض إلى النقيض مثلما يحدث لشخصية (صابر) الملقب بالبغل الذي تحوّل الى شخصيّة سياسية وعقل يساري، ورجل تنظيم بعد أن كان شخصية مستلبة من قبل أخيه (مهران) الذي يمثّل الشخصيّة الرئيسة والمركزيّة التي تتسم بالعنجهية والتسلّط واستغلال الآخر وجمع كلّ التناقضات من خصائص القبح والبحث عن الجنس المحموم والأنانية والطمع والكسب غير المشروع، وعدم الاكتراث بأي قيم أو نواميس غير فحيح الذات المحموم باتجاه التملّك والامتلاك وازاحة الآخر مهما كان قريباً من أجل إعلاء شأن الذات وهو مرض يعكس خللاً في سيرته وأصله وماضي الأم المريب الذي أدّى إلى تشكيل هذه الشخصيّة ذات العقد وهستيريا التحكّم والتملّك والسلوك السايكوباثي وهو على النقيض من أخيه غير الشقيق (صابر) الذي أوجد له لقب (البغل) لاستلابه والسيطرة عليه واستغلاله وتحويله إلى عبد ممسوخ تحت رحمته. تلك هي سمات الشخصيّة المتمركزة حول ذاتها ومطامعها إنّها شخصيّة (مهران) الذي يفتقد إلى الأصل والأصول، إذ يعاني من عقدة أمّه وحملها من زوج اتضح انّه عقيم فتركها وطلّقها ثم تزوجت من (مسعود) الذي كان يعامله بقسوة وفظاظة، لعل هذه هي مغذيات هذه الشخصيّة السلبية التي تحمل في أعماقها الشرّ والاستئثار والبحث المحموم عن الوجاهة الزائفة، واللّهاث حول المتع الغرائزية، وتحرّشه بالنساء من دون مراعاة لأي وازع اخلاقي واستغلال (رازقية) وممارسة الجنس معها على الرغم من قيم الجورة أو السكن المشترك، ولكونها تعاني من زوجها (حامد) المريض الذي يعمل في معامل الطابوق، ومحاولة التحرّش بزوجة (عباس) جاره، ومحاولة الانتقام منه ومن كرامته، وكذلك تقديم الرشاوى من أجل الحصول على سند الأرض ضمن حملة تمليك أهل الصرائف في عهد قاسم وغيرها من السلوكيات والعُقد والتوجّهات التي ترسم ملامح هذه الشخصيّة المتناقضة التي تعبّر عن مركبّ وعقدة النقص من ماضيه المريب. ونلحظ تسليط الضوء على الأوضاع الاجتماعية والصراعات الداخلية في مجتمع الصرائف والأحياء البغدادية القديمة بالموازاة لنزعة التوثيق والإحالات التاريخية والسياسية التي شكّلت مزيّة من مزايا البنية السردية المزدوجة، ومن خصائص هذه الرواية أنّها زاوجت بين المحتوى الانساني والتاريخي واليومي وبين الشكل التعبيري وتقنيات السرد، فقد اتسّمت بتوظيف البناء (البوليفوني) أو تعدّد الأصوات ولم يكن السرد بصيغة السرد الموضوعي ممّا جعلها تقدّم تعدديّة في المنظور السردي وتقديم دواخل الشخصيّات من منظورها الذاتي. واتّسمت بتوظيف تقنيّة الحوار المتخارج والمتداخل مع الذات بوجود الصوت الداخلي لشخصيّة (مهران) وهو صوت داخلي يحاسبه ويترصّده ويتعمق في تذكيره بالماضي، وهي وسيلة لفضح الشخصيّة وتقديم قلقها الداخلي ووساوسها البغيضة وهو نوع من فضح الذات والتيقّن بأنّه شخص ذو نقص مركّب على وفق نزواته وسلوكه الشائن، وهو منقسم مع ذاته وغير متصالح معها نتيجة عدم تناغمه مع القيم ومع الصدف بل هو أنموذج للزيف والقبح. ويمكن الاستدلال بماهية خطاب الصوت الداخلي وقوّة كشفه للشخصيّة مما جعل السرد يتخذ مسارات ومنظورات متعدّدة للكشف عن الخفي والمترسب في هذه الشخصيّة التي تمثل شخصيّة تعاني الفصام الداخلي وهي تتوغل بكلّ ما هو سلبي من دون الاهتمام بقيم المكان بوصفه الجوهر الذي يجمع الفقراء والكادحين والمستلبين، يقول الراوي: "كنت دائماً لصق قلبك الذي قُدَّ من جلمود، ولصق صدرك وأذنيك وعينيك، اهتف بك قف أيها العبد لغرائرك، إياك من رغباتك التي ليس لها من حدود، ومن شبقك الموصول الممدود. إلاّ أنك تمضي كأنّك لا تسمع، ولم يكن باستطاعتي ردعك ولا صّدك عمّا أنت فاعل فاملأ دفتري بخطاياك، وها أنا أفرده أمامك في الوقت الذي تنسل الحكايات تباعاً منه ومن رأسك المعطوب، سأمسك بالخيط من البداية وهي بالتأكيد لا ترضيك.. لا تقطّب جبينك ولا تغضب منّي اذا قلت لك بأنّك كنت فظّا وأنانياً وغير أمين على أهلك وجيرانك.. رغبتك في ازعاج الناس فاقت كلّ تصور، ولذلك لم تجد لك نصيراً يقف اليوم بجانب عجزك وشيخوختك إلاّي، ما الذي يتذكّره الآخرون منك؟"(الرواية: 11-1) . على وفق هذه المعطيات العيانية في البنية السرديّة نجد أنّ الرواية قد توافرت على تفعيل وتوظيف البعد السايكولوجي في فضح الذات، ولم يمثّل الصوت الداخلي الذي يمثّل صوتاً سردياً يتداخل مع الأصوات والشخصيات الأخرى والمتباينة، لم يمثل صوت الذات الحقيقية أو صوت الضمير بل بالعكس هو صوت لتوكيد القبح وتوكيد الانشطار الداخلي وصوت الماضي، وصوت القلق والاجترار السلبي للأحداث والتذكير بأنّه ذات انحرفت عن الجادّة السويّة بفعل عوامل اجتماعية وبيئة مضطربة وتحوّل إلى شخصية مركبة ومنشطره وتحمل في أعماقها القبح والنزعة السادية. والرواية تؤرّخ أو تتوغل في الأحداث ورصد تاريخية المكان (الصرائفي) وأحياء بغداد البائسة، على مدى أكثر من نصف قرن كانت الرواية تفرد مساحة للسرد والإحالة التاريخية، وقد انعكس هذا التوظيف على طبيعة الإيقاع السردي الذي بالضرورة سيكون إيقاعاً سريعاً متواتراً وانتقائياً، ولم يغرق في التفاصيل الدقيقة بل كان التعبير عبارة عن لغة إشارية وتوظيف بعض الإحالات والمفردات والتوصيفات التي تعبّر عن طبيعة الأحداث والمنعطفات الحادّة والفاصلة . وقد حققت الرواية تعدّدية أو تنوّعًا في مستويات انتاج السرد والمعنى والرؤى، ولم تكن نصّا أحاديا ومن منظور واحد، فهناك المستوى التاريخي والنفسي والوجودي، ومستوى التعبير عن المفارقات والتناقضات الاجتماعية، ويمكن الاستدلال على نمط استحضار الحدث التاريخي بهذا المقطع السردي كأنموذج للتوجّه القصدي والدال: "ولأن العديد من الأمور ما زالت ملتبسة لدى (صابر) فقد بدأ يسأل ويحاور، فهو مثلاً في تلك الفترة لا يعرف ماذا يريد القوميون والبعثيون؟ ولماذا يناصبون العداء للشيوعيين، إذا كان الشيوعيون قد جاءوا من أجل الطبقات الكادحة كما أخبره (بشير)، ثم ماذا يريد الناس أكثر من هذه الحرّية والمنجزات التي يتداولونها في الأحاديث، وتتكرر في برامج الإذاعة!! واللّجان الشعبية التي ينوي الشيوعيون تأسيسها.. أليست هي التي ستدافع عن المظلوم ضد الظالم؟ قبل أن يطرح هذه الأسئلة على الرفيق الجديد، تساءل: لماذا يريد الشيوعيون تشكيل خلايا للمقاومة في أحياء بغداد، وهم يحظون بالسلطة إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم.."(الرواية 65- 66)، وتمثّل التناقضات الاجتماعية وصخب الصراعات الدفينة والظاهرة والشخصيّات المتباينة والمتضادّة الصورة الكليّة القلقة أو المعادل الموضوعي لأحداث التاريخ المتناقضة والمتداخلة والملتبسة أحيانا. ولكي تمنح الرواية ذاتها البعد الشعبي وتوغّلها في هذه الكانتونات أو العشوائيات، ولكي يتعمّق المنحى الواقعي كان اللّجوء إلى الحوار الشعبي واللّهجة العاميّة لتعميق الصدق والتناول العفوي وعكس مستوى الوعي والمفردات التي ترتبط بالواقع وتحيل إليه، ويمكن أن نقدم هذا المقطع الحواري الدال الذي دار بين الأختين (وردة) و(عفيفة) وهما شخصيتان مستلبتان تحاولان البقاء على قيد الوجود، وإنْ اضطرّتا لمزاولة بعض المهن المحظورة أو السلوك الباطني واعتراض (وردة) على حمل عفيفة، يقول الراوي العليم: "في صبيحة أحد الأيام توتّر الجو بين الأختين:
ويمثل الغياب أو الاختفاء أو الرحيل عن الحي إحدى ظواهر الأحداث: فـ(صابر) تغيّبه السجون والمعتقلات نتيجة انتمائه لليسار أو للحزب الشيوعي، ورازقيّة تختفي بعد موت زوجها، وخضوعها لإرادة أقاربها وأهلها الذين أخذوها إلى الكوت، وبعد انتشار فضيحة (وردة) و(عفيفة) اضطرتا للرحيل والغياب والاختفاء من الحي، ان جمالية الرواية في كونها صيغت وبأسلوب فنّي وتعبيري، متعدّد المستويات عن مراحل التأزم والنكوص ورصدت الفقر والصراعات والقبح ووازنت بين النسق الاجتماعي والتاريخي والتوغّل في أمكنة المهمشين وفي أحياء الصرائف وقدّمت بانوراما انسانية واجتماعية وتاريخية دالة ومنتجة للتجسيد والرصد. |
| المشـاهدات 21 تاريخ الإضافـة 16/11/2025 رقم المحتوى 68342 |
أخبار مشـابهة![]() |
حفل توقيع كتب لفائزين عراقيين وعرب بجائزة العويس الثقافية
|
![]() |
ضرورة تفعيل الوعي البلدي للمواطنين وحثهم على ترشيد استهلاك المياه
|
![]() |
جائزة الشارقة للتراث الثقافي تناقش تعزيز مكانتها وريادتها عالميًا
|
![]() |
النادي الثقافي العربي بالشارقة يحتفي بالأديب السوداني «الطّيب صالح» |
![]() |
نادي النقد في اتحاد الادباء يقلّب أوراق (النقدية العراقية من التأسيس إلى الوعي المنهجي) |
توقيـت بغداد









