الثلاثاء 2025/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
من المدرسة إلى المجتمع.. دور الثقافة في تشكيل القيم التربوية
من المدرسة إلى المجتمع.. دور الثقافة في تشكيل القيم التربوية
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. عصام البرّام
النـص :

يُنظر إلى المدرسة عادة بوصفها مؤسسة تعليمية تُعنى بنقل المعرفة والمهارات، غير أن هذا التصور يظل ناقصًا إذا ما أُغفل بعدها الثقافي العميق. فالمدرسة ليست كيانًا معزولًا عن المجتمع، بل هي امتداد له، تتغذى من ثقافته وتعيد إنتاجها في الوقت نفسه. ومن هذا المنطلق يصبح الحديث عن القيم التربوية حديثًا عن الثقافة بوصفها الإطار الذي تتشكل داخله هذه القيم، وتُفهم من خلاله، وتُمارس في الحياة اليومية. فالثقافة هي التي تمنح التربية معناها، وتحدد اتجاهاتها، وترسم ملامح الإنسان الذي يسعى المجتمع إلى بنائه.القيم التربوية لا تولد داخل جدران المدرسة، بل تنشأ في الفضاء الاجتماعي الأوسع، حيث تتقاطع المعتقدات والعادات والتقاليد وأنماط التفكير السائدة. وحين يدخل الطفل إلى المدرسة، فإنه لا يأتي صفحة بيضاء، بل يحمل معه رصيدًا ثقافيًا تشكل داخل الأسرة والحي ووسائل الإعلام واللغة اليومية. هذا الرصيد يتفاعل مع ما تقدمه المدرسة، فينتج وعيًا جديدًا قد يكون منسجمًا مع ثقافة المجتمع أو متوترًا معها. ومن هنا تتجلى أهمية فهم العلاقة الجدلية بين المدرسة والمجتمع، لأن القيم التي تُغرس في المتعلم هي نتاج هذا التفاعل المستمر بين ما هو تربوي وما هو ثقافي.تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في تحديد ما يُعد قيمة تربوية أساسية. ففي بعض المجتمعات تُعطى الأولوية لقيم الطاعة والانضباط والامتثال، فتُبنى الممارسات التربوية على التلقين واحترام السلطة، بينما تبرز في مجتمعات أخرى قيم الحوار والاستقلالية والمسؤولية الفردية، فتُشجع التربية على التفكير النقدي والمبادرة. هذه الاختلافات لا تعود إلى اختيارات تربوية تقنية، بل إلى تصورات ثقافية أعمق حول الإنسان ودوره في المجتمع، وحول العلاقة بين الفرد والجماعة، وحول معنى النجاح والفشل.ومن المدرسة تنتقل هذه القيم إلى المجتمع، حيث تُمارس وتُختبر في الواقع العملي. فالمتعلم الذي نشأ في بيئة مدرسية تُعلي من قيمة التعاون، سيحمل هذه القيمة إلى فضاء العمل والعلاقات الاجتماعية، بينما من تربى على المنافسة الفردية الصارمة قد يعيد إنتاجها في سلوكه المجتمعي. وبهذا المعنى، لا تكتفي المدرسة بعكس ثقافة المجتمع، بل تسهم في تشكيلها على المدى البعيد، لأن ما يُغرس في الصفوف الدراسية يتحول لاحقًا إلى ممارسات اجتماعية وأنماط تفكير سائدة.الثقافة المدرسية نفسها تُعد عنصرًا أساسيًا في تشكيل القيم التربوية. فالقيم لا تُنقل فقط عبر المناهج المكتوبة، بل عبر المناخ العام للمدرسة، وطبيعة العلاقات بين المعلمين والطلاب، وبين الإدارة والعاملين، وبين المدرسة وأولياء الأمور. طريقة حل النزاعات، وأساليب الثواب والعقاب، وحدود الحرية والمسؤولية، كلها رسائل ثقافية تُبث يوميًا وتترك أثرًا عميقًا في وعي المتعلمين. وغالبًا ما تكون هذه الرسائل غير المعلنة أكثر تأثيرًا من الدروس النظرية حول القيم والأخلاق.ولا يمكن فصل دور الثقافة في التربية عن التحولات الاجتماعية المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر. فالعولمة والرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي أدخلت أنماطًا ثقافية جديدة إلى حياة الأفراد، وأثرت في منظومة القيم، خصوصًا لدى الأجيال الشابة. وأمام هذا الواقع، تجد المدرسة نفسها أمام تحدٍ مزدوج، يتمثل في الحفاظ على القيم الثقافية الأساسية للمجتمع، وفي الوقت نفسه تمكين المتعلمين من التفاعل الواعي مع ثقافات أخرى. وهنا يبرز دور التربية الثقافية في بناء وعي نقدي قادر على الاختيار، لا مجرد الرفض أو الاستلاب.المناهج الدراسية تمثل أحد أهم القنوات التي تنتقل عبرها الثقافة إلى المتعلم. فهي ليست مجرد محتوى معرفي، بل رؤية للعالم تُقدم في صورة نصوص وأمثلة وشخصيات تاريخية ونماذج سلوكية. وما يتم اختياره أو إقصاؤه من هذه المناهج يعكس موقفًا ثقافيًا من قضايا الهوية والتاريخ والآخر. لذلك فإن تطوير المناهج ينبغي أن ينطلق من وعي عميق بدور الثقافة في تشكيل القيم التربوية، لا من اعتبارات تقنية أو آنية فقط.الأسرة بدورها تشكل حلقة وصل أساسية بين المدرسة والمجتمع في نقل القيم الثقافية. فعندما تتكامل القيم التي تُغرس في البيت مع تلك التي تُعزز في المدرسة، يصبح تأثير التربية أكثر رسوخًا واستقرارًا. أما حين يحدث التناقض، فإن المتعلم قد يجد نفسه أمام منظومتين قيميّتين متعارضتين، ما يخلق حالة من الارتباك أو الازدواجية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى شراكة حقيقية بين المدرسة والأسرة، قائمة على فهم مشترك لدور الثقافة في التربية وأهدافها.المعلم يحتل موقعًا محوريًا في هذه العملية، لأنه الوسيط الحي بين الثقافة والقيم التربوية. فالمعلم لا ينقل المعرفة فقط، بل يجسد القيم في سلوكه اليومي، وفي طريقة تفكيره وتواصله مع طلابه. وحين يكون المعلم واعيًا بدوره الثقافي، يصبح قادرًا على تحويل المواقف التعليمية إلى فرص لبناء القيم، لا عبر الوعظ المباشر، بل عبر الممارسة والنموذج. ولذلك فإن إعداد المعلمين ينبغي أن يشمل بعدًا ثقافيًا عميقًا، يمكنهم من فهم المجتمع الذي يعملون فيه والتفاعل معه بوعي ومسؤولية.من المدرسة إلى المجتمع، تستمر القيم التربوية في التشكل والتغير، متأثرة بالتجربة الحياتية والواقع الاجتماعي. غير أن الأساس الذي وُضع في السنوات الأولى من التعليم يظل مؤثرًا في تحديد مسار الفرد. فالتربية التي تُعزز قيم الحوار والاحترام والمشاركة، تسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا وقدرة على إدارة اختلافاته، بينما التربية التي تُهمل البعد الثقافي قد تُنتج أفرادًا منقطعين عن مجتمعهم أو عاجزين عن الإسهام الإيجابي فيه.إن دور الثقافة في تشكيل القيم التربوية ليس مسألة نظرية، بل قضية عملية تمس مستقبل المجتمعات. فالمجتمع الذي يستثمر في تربية ثقافية واعية، إنما يستثمر في بناء إنسان قادر على فهم ذاته وتاريخه، والتفاعل مع محيطه، والمشاركة في صنع مستقبله. ومن هنا تصبح المدرسة نقطة انطلاق، لا نهاية، في مسار طويل يمتد من الصف الدراسي إلى الفضاء الاجتماعي الواسع، حيث تتحول القيم التربوية إلى ممارسات، والثقافة إلى قوة فاعلة في بناء الإنسان والمجتمع معًا.

المشـاهدات 25   تاريخ الإضافـة 22/12/2025   رقم المحتوى 69212
أضف تقييـم