المواطن أخيراً
![]() |
| المواطن أخيراً |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب سيف الحمداني |
| النـص :
في كل موسم سياسي، يُستدعى المواطن إلى قفص الاتهام. يُقال له إنك أخطأت حين انتخبت، ويُقال لك إنك أخطأت أكثر حين قاطعت. تُحمَّل مسؤولية النتائج، وتُختصر الأزمات باسمك، حتى يبدو وكأنك أصل الداء لا ضحيته. لكن ما إن تهب أول عاصفة مالية، حتى تتكشف الحقيقة القديمة المتجددة: المواطن ليس شريك القرار، لكنه دائمًا أول من يُدفع إلى الدفع.تدخل الحكومات في أزمات مالية متكررة، بعضها نتيجة ظروف دولية، لكن معظمها ثمرة سوء إدارة، وفساد مزمن، وغياب التخطيط. ومع كل أزمة، تُرفع لافتة “الإصلاح الاقتصادي”، لتبدأ بعدها سياسات إنفاقية لا تمسّ جذور الخلل، بل تتجه مباشرة إلى الجيب الأسهل: جيب المواطن. تُفرض رسوم، تُزاد ضرائب، تُستحدث جبايات، تُرفع أسعار خدمات أساسية، وكأن راتب الموظف أو دخل الكاسب اليومي هو الخزانة الاحتياطية للدولة.لا أحد يجادل في حق الدولة بفرض الضرائب أو تنظيم الجباية، فهذا مبدأ اقتصادي معروف في كل دول العالم. لكن الخلاف يبدأ حين تُطلب التضحية من الحلقة الأضعف، بينما تبقى أبواب الفساد محصّنة، والصفقات المشبوهة بعيدة عن المساءلة، والمشاريع الوهمية بلا حساب. يصبح السؤال هنا مشروعًا: لماذا يُطلب من المواطن أن يسد عجزًا لم يصنعه؟ ولماذا تُدار الأزمات بعقلية الجباية لا بعقلية الاسترداد؟في العراق، لا يعاني المواطن فقط من ضعف الدخل، بل من غياب المقابل. يدفع ضرائب ورسومًا، لكنه لا يرى خدمات مستقرة، ولا بنية تحتية تليق بما يُستوفى منه، ولا عدالة في توزيع الأعباء. الكهرباء شحيحة، الماء ملوث، الطرق متهالكة، والوظيفة غير آمنة. ومع ذلك، حين تعجز الإدارة المالية عن ضبط نفقاتها أو استعادة الأموال المنهوبة، يكون الحل الجاهز: زيادة الضغط على المواطن.الأدهى من ذلك أن الخطاب الرسمي كثيرًا ما يتحدث عن “الشدّ على الأحزمة”، لكنه لا يحدد على من تُشد هذه الأحزمة. فالأحزمة لا تُشد على امتيازات المسؤولين، ولا على رواتب الدرجات الخاصة، ولا على عقود المستشارين، بل تُشد على المواطن البسيط الذي لم يعد يملك ما يشدّه أصلًا. تتحول العدالة الاقتصادية إلى شعار، بينما الواقع يكرّس منطق أن الدولة تُدار للأقوياء، وتُموَّل من الضعفاء.المواطن العراقي ليس رافضًا للدولة، ولا معاديًا لفكرة الدفع. على العكس، حين يشعر أن ما يدفعه يعود عليه خدمةً وأمنًا وعدالة، فإنه يدفع برضا نفس، بل ويدافع عن الدولة نفسها. المشكلة ليست في مبدأ الدفع، بل في غياب الثقة. الثقة التي تهدر حين يرى المواطن أن المليارات تُسرق بلا عقاب، بينما تُلاحق آلاف الدنانير في جيبه بدقة شديدة.“المواطن أخيرًا” ليست مجرد عبارة، بل توصيف لسياسة طويلة الأمد جعلت المواطن آخر من يُفكَّر فيه وأول من يُضحّى به. وإذا أرادت أي حكومة أن تغيّر هذه المعادلة، فالطريق واضح: ابدأوا باسترجاع المال العام، اضبطوا الإنفاق، حاسبوا الفاسدين، ووفّروا الحد الأدنى من العيش الكريم. عندها فقط، سيتحول المواطن من متهم دائم إلى شريك حقيقي، ومن ضحية سياسات فاشلة إلى داعم لدولة تستحق الدعم.
|
| المشـاهدات 69 تاريخ الإضافـة 25/12/2025 رقم المحتوى 69277 |
توقيـت بغداد









