| النـص :
السؤال الأول الذي يتمحور حوله هذا المقال هو: هل كانت التنظيمات الإسلامية العراقية ناضجة بما فيه الكفاية بعد السقوط؟ وهل كانت مؤهلة لتولي الحكم، أو أدق من ذلك: هل كانت مؤهلة لبناء دولة، في لحظة تاريخية أقدم فيها المحتل على إسقاط النظام وحلّ الجيش وتفكيك الوزارات الأمنية والثقافية والإعلامية؟ الجواب، وبصرامة تحليلية لا مجاملة فيها، هو: لم تكن ناضجة بما يكفي لسدّ فراغ المرحلة. لا لأن نواياها كانت سيئة بالضرورة، بل لأن بنيتها ووظيفتها وتكوينها لم تكن سياسية بالمعنى العلمي المتعارف عليه، إلا في حالات نادرة ومحدودة. لقد نشأت أغلب التنظيمات الإسلامية العراقية بوصفها حركات معارضة عقائدية، لا أحزاب دولة. كانت تحمل هدفًا مركزيًا يتمثل في إسقاط نظام استبدادي عاث في الأرض فسادًا، وهذا الهدف – على أهميته وشرعيته – لا يصنع تلقائيًا تنظيمًا مؤهلًا لإدارة الدولة، ولا ينتج عقلًا سياسيًا قادرًا على الانتقال من منطق المواجهة إلى منطق الحكم. فالحزب السياسي، بالمعنى العلمي لا الشكلي، لا يمكن أن ينهض بوظيفة الدولة ما لم يمتلك منظومة متكاملة لإدارتها؛ منظومة تقوم على نظرية اقتصادية واضحة، ونظرية سياسية محددة المعالم، ورؤية اجتماعية واعية لبنية المجتمع وتحولاته، ونظرية ثقافية تصوغ الهوية الوطنية وتدير التعدد بدل مصادرته. ومن دون هذا التكامل، تتحول السلطة إلى إدارة ارتجالية، وتغدو القرارات ردود أفعال لا سياسات عامة. كما يفترض بالحزب أن يمتلك هيكلية تنظيمية رصينة وآلية تداول قيادي واضحة، تجعل من القيادة فعلًا مؤسسيًا لا امتيازًا تاريخيًا، ومن الشرعية نتاجًا للأداء والكفاءة لا نتاجًا للرمزية أو السيرة النضالية. فالتنظيم الذي لا يؤمن بالتداول داخل بنيته، يعجز بطبيعته عن ترسيخ هذا المبدأ في الدولة التي يديرها. غير أن ما حدث بعد السقوط هو انتقال كثير من التنظيمات الإسلامية من ثقافة المظلومية إلى ممارسة السلطة دون المرور بمرحلة مراجعة فكرية وتنظيمية عميقة. فاستُحضرت أدبيات المعارضة لإدارة الدولة، واستُخدمت لغة العقيدة في فضاء يحتاج إلى لغة القانون، وغُلّبت روح التنظيم على روح المؤسسة، ما أفضى إلى ارتباك في الأداء وضعف في الرؤية. لقد دخلت هذه التنظيمات إلى الدولة من بوابة الفراغ لا من بوابة الجاهزية. فالاحتلال لم يُسقط النظام فحسب، بل هشّم بنية الدولة نفسها، وفتح المجال أمام صراعات الهوية والولاءات والمحاصصات. وفي مثل هذا السياق الاستثنائي، كان المطلوب تنظيمات تمتلك عقل الدولة لا عقل الجماعة، ومنهج المؤسسة لا منطق التنظيم المغلق. والأهم من ذلك أن كثيرًا من هذه التنظيمات ولدت في اللحظة نفسها التي سبقت السقوط أو أعقبته مباشرة. نشأت على عجل، في سياق سياسي مضطرب، فافتقرت منذ ولادتها إلى العمق الفكري والتراكم النظري الذي يؤهلها للتحول إلى أحزاب دولة. ولهذا، لا نجد في أغلب هذه التنظيمات أدبيات واضحة تعبّر عن رؤاها أو استراتيجيتها في الحكم وإدارة الدولة، بل بيانات ظرفية وشعارات آنية استجابت للحدث أكثر مما قادته، ما جعل الفعل السياسي لاحقًا أسير الارتجال، لا نتاج تخطيط واعٍ. إن غياب المشروع المتكامل لا يؤدي إلى الفشل الفوري بالضرورة، بل قد يسمح للتنظيم أن يستمر لفترة بوضعٍ مشوّه، أشبه بجسدٍ وُلد خديجًا، يعيش بفعل أجهزة الإنعاش لا بفعل المناعة الذاتية. لكن هذا العيش مؤقت، ومحكوم بنهاية حتمية. فالخلل البنيوي يبدأ أولًا بـ الموت السريري للعقل السياسي؛ يموت الدماغ الذي يُفترض أن يخطط ويستشرف ويضبط إيقاع الدولة، بينما يبقى القلب ينبض آليًا، مدفوعًا بتحالفات ظرفية، ومحاصصات، وخطاب تعبوي، أو الخوف من البديل. ومتى ما رُفعت هذه الأجهزة، أو تغيّرت موازين القوة، يصبح الموت الكامل أمرًا لا محال منه. ومع ذلك، فليس هذا الطرح دعوة إلى اليأس أو إعلانًا لنهاية الأمل. فالأمل، في الرؤية الإسلامية للتاريخ، قيمة تكليفية لا شعورًا عاطفيًا، ولا يُلغى إلا إذا أُلغيت القدرة على الفعل. غير أن هذا الأمل لا يُستدعى بالشعارات، ولا يُستحضر بالنيات المجردة، وإنما يُبنى على قاعدة الإصلاح الذاتي قبل ادعاء القدرة على إصلاح الواقع. لقد دلّنا المنهج الإسلامي، في بعده السياسي والأخلاقي، على أن إصلاح الجماعة سابق على إصلاح الدولة، وأن المراجعة والمساءلة شرط في أي مشروع تغييري. فالتجارب الكبرى لم تُبنَ من خارج الذات، بل من داخلها، عبر كسر القداسة عن الخطأ، وتحويل التاريخ من عبءٍ مبرِّر إلى خبرةٍ مُرشِدة. إن التنظيم الذي يعجز عن ترميم بنيته الفكرية، وتصحيح علاقته بالسلطة، وضبط مفهوم القيادة داخله، لا يمكنه أن يكون أهلًا لقيادة مجتمع متعدّد، أو إدارة دولة مركّبة كالدولة العراقية. فكيف لمن لم يحسم إشكالياته الداخلية، ولم يؤسس لعدالة تنظيمية، أن يدّعي القدرة على إنتاج عدالة عامة؟ ومن هنا، فإن الانتقال الحقيقي ليس انتقالًا شكليًا من المعارضة إلى الحكم، بل تحولًا بنيويًا من منطق الجماعة إلى منطق الأمة، ومن عقل الغلبة إلى عقل المسؤولية، ومن شرعية التاريخ إلى شرعية الأداء. وهو انتقال لا يتحقق إلا حين تدرك التنظيمات أن السلطة ليست غاية، بل أمانة، وأن الدولة ليست مكافأة نضالية، بل ابتلاء سياسي وأخلاقي. بهذا المعنى، يبقى الأمل ممكنًا، لا بوصفه وعدًا مفتوحًا، بل بوصفه مشروعًا مشروطًا بالإصلاح؛ إصلاح يبدأ من الداخل، من تفكيك الأخطاء قبل تبريرها، ومن مساءلة التجربة قبل تمجيدها. فذلك وحده ما يؤهل التنظيمات، إن أرادت، لأن تنتقل من تاريخ المعارضة إلى أفق الدولة، ومن خطاب العقيدة المجردة إلى ممارسة الحكم الرشيد.
|