الثلاثاء 2025/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
أنا من هناك..حياة الجيل الثالث بعد النكبة بوطنه
أنا من هناك..حياة الجيل الثالث بعد النكبة بوطنه
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

متابعة ـ الدستور

اهتممت طيلة عملي الثقافيّ السياسيّ بمتابعة حيوات أحفاد "المتشائل" في رائعة إميل حبيبي، بتشخيص ما هو مشترك وما هو مختلف بين حيواتهم وبين حياة الجدّ، سعيد أبي النحس الذي ألفى نفسه في فلسطين تحت سيادة أجنبيّة. أقليّة تحكمها أكثريّة بعد أن كان هو صاحب المكان والزمان. ومسرحيّة "أنا من هناك" من تمثيل الفنان عامر حليحل كانت شُرفة عالية أطلّ منها على حياة واحد من الأحفاد قد يمثّل الجيل كلّه.لم تكن المسرحيّة (عُرضت على خشبات مسارح عدّة في الجليل والساحل والمثلّث) سوى سرديّة لطيفة، لكن عميقة، وذكيّة لحياة عامر نفسه من زاوية علاقته بالشعر/ الكلمة. ومن هنا اعتباري لها مساحة ممتدّة لرؤية حياة الجيل الثالث بعد النكبة في وطنه. في وطن أسير سيادة الآخر وعسفه وعنفه وحربه التي لا تتوقّف. فإذا كان "المتشائل" استطاع أن يبقى على نحو ما ـ ملحمة بقاء ـ من خلال مرونة خارقة بين هويّته وانتمائه لنكبته، وبين شرطه الجديد على حاكمه وقسوته، أتى "حفيده عامر" ليبقى مثله ضمن الشرط نفسه تقريبًا لكن ليرسم الصمود بوعي مغاير مؤسّس على هويّته وانتمائه أساسًا وليس على مداراة الآخر واتّقاء شرّه بالمرونة ومقاومته بالحيلة كما وصفها جيمس سكوت.يُخلّصنا عامر ـ ويخلّص نفسه ـ من التأرجح بين حالة البطولة وحالة الذلّ والمهانة، بين حالة الانتماء لذاته وبين مسايرة الشرط المفروض وإغراءاته ليكون ذاته. فهو يقرّ بالشرط ويقرّر أن يكون نفسه في الوقت ذاته، مع ما يعنيه ذلك من العيش عيشة حقيقيّة متيسّرة لا ينتظر وعدًا ولا سرديّة كبرى تنقله إلى جنّة أو انتصار مبين يُخلّصه من قاهره وقهره. فقد خبر بالتجربة والخيبة أنها ـ الوعود الكُبرى ـ قد انتهت إلى غير رجعة. ومع هذا فهو على حاله يُدرك تمامًا شرطه ويصرّ على إنسانيّته وانتمائه للمكان وللجماعة. فإذا كان الجيل الأوّل للنكبة انتظر بإيمان كامل أن هناك مَن سيأتي لتصحيح التاريخ وإعادة الفردوس إلى أصحابه، يأتي عامر في مسرحيّته ليقول لنا إنه لا ينتظر فوزًا ولا فرجًا لكنّه باق هناك.يبدو أن الشعر واللغة بوصفها ثقافة نجّته ونجّت غيره من الأحفاد من "مصيدة تل أبيب"، من إغواء مسارحها وفُرصها التي دحرجتها تحت قدميْه كي يعلق ويغيب، إلّا أنه قفل راجعًا إلى حيفا. وهكذا كان عندما انتقل للعمل في مسرح لندن. رغم حفاوة الأجواء هناك ظلّ الشعر ممسكًا به دالًا إيّاه على دياره هو، على لغته وثقافته وهويّته كوجدان وتجربة يوميّة.المسرحيّة ـ "أنا من هناك" وهي من تأليف عامر حليحل نفسه ـ السهلة المُمتنعة تقوم على متن علاقة عامر بالشعر وبالكلمة وعلى دور الشعر في حياته وحيواتنا نحن. يبدو أن شوطًا طويلًا من حياة كلّ منّا ـ أو حياة الفلسطينيّ المتوسّط ـ تكون في مساحات الشعر والنصوص والأغاني التي تلامس تصوّراتنا للكون وقراءاتنا له. فالرحلة التي يأخذنا عامر إليها معه تمتدّ من طفولته إلى اللحظة الراهنة بكلّ محطّاتها، تلميذًا وطالب جامعة وابن أسرة قلقة على سلامته ومستقبله وعاشقًا وممثّلًا عالميًّا وأبا وواحدًا منّا، يحكي بصراحة ومكاشفة كلّ شيء بكثير كثير من السخرية والذكاء والإمتاع.على طريقة المتشائل لا بدّ لنا من السخرية، السوداء أيضًا، للنهوض بعبء الشرط السياسيّ الوجوديّ والمضي قُدمًا إلى حبيباتنا أو أمّهاتنا أو أبنائنا وبناتنا. وهي طريقة صاحب البلاد الذي حوّله الوافدون إلى "غريب" أو "غائب" فيها. والسخرية طريقة احتيال المكلوم على جرحه، والسجين على سجنه وسجّانه.أداء عامر هنا ـ وفي كلّ مسرحيّاته وأعماله ـ ليس تمثيلًا تقنيًّا أو أداءً للدور بل هو حضور على الخشبة بكامل جوارحه وخفّة دمه وعُمقه. يسرد قصّته ويتحرّك بين أسى شفيف وفرح غامر. ونتحرّك معه بين ضحكة وغصّة كأن حياتنا هنا في هذا المكان محشورة في المسافة بينهما ـ وهي مسافة قصيرة، نعيش فيها خطفًا على المحور بين نقيضيْن. لحظة واحدة تفصل بين فرحه/ فرحنا وبين أساه/ أسانا. إنها رحلته إليه ورحلتنا إلينا على نحو يُشفي ويُداوي بقدر ما يُمتع ويوجع.السرديّة الشعريّة في المسرحيّة تمرّ على كلّ لحظات الحياة ولا تنسى شيئًا. لا ما هو عابر يوميّ، كفرح خفيف، ولا ما هو مقيم وجوديّ كالخوف من العسف والقهر. لا ما هو جارٍ كجلسة أصدقاء ولا ما هو وجوديّ كالأبوّة والانتماء. ينجح عامر في سرديّته أن يلامس ما فينا نحن من كلّ هذا. يُفكك فينا مشاعرنا وأحاسيسنا المكنونة وأفكارنا الحبيسة ويُرتبها. وقد لا يرتّبها بل يزيدها اضطرابًا وتقاطعًا مكتفيًا بكشفها بالقول "أنا مثلكم تمامًا، بي ما بكم، لستم وحدكم"!يُقدم عامر عملًا يدمج بين الشعر وبين المسرح. فلا نعرف إذا كان الشعر يأتي إلينا بفضل خشبة المسرح أو أن المسرح يأتي إلينا على متن الشعر. في كلا الحالتيْن يمنح عامر حليحل الشعر حياة جديدة (فعل ذلك بألمعيّة لافتة في مسرحيّته "طه" التي شيدت على سيرة حياة وشعر الشاعر ابن قرية صفوريّة المهجّرة ـ وسط جبال الجليل، طه محمد علي). يُخرجه من مواقعه ويقدّمه لنا حياة كاملة زاخرة حمّالة دلالات ومعانٍ. يردّ عامر في عمله هذا الاعتبار للشعر وللشعراء والشاعرات. ربّما لأن الشعر أكثر من غيره قُدرةً على اختزال الحياة أو التقاط لحظاتها الفاصلة أو التخفيف من ثقلها خاصّة عندما يكون هذا الثقل شرًّا مطلقًا كما هو حاصل في فلسطين الآن. وقد كان السير على خطاه سيرًا إلى أنفسنا، أيضًا. فيه من الشفاء وفيه من ترتيب ما في غرف النفس المُتعبة المستنزَفة من قهر ومشاهد غير مألوفة لميتة الفلسطينيّ ومأساته.

المشـاهدات 24   تاريخ الإضافـة 22/12/2025   رقم المحتوى 69220
أضف تقييـم