السبت 2025/12/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 7.95 مئويـة
نيوز بار
الاختراق السياسي حين تتحول المنصة الثقافية إلى معبرٍ سرّي
الاختراق السياسي حين تتحول المنصة الثقافية إلى معبرٍ سرّي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

ليس الاختراق السياسي فعلًا صاخباً كما نتخيله دائماً. لا يأتي بالضرورة على ظهر دبابة، ولا يلوّح براية حزب. أحياناً يدخل هادئاً، مهذباً، مرتدياً بدلة شاعر، أو حاملاً ديواناً لا أحد قرأه. يبتسم للكاميرا، يشكر المؤسسة، ويغادر وقد ترك خلفه صدعاً في المعنى لا يُرى بالعين المجردة.

 

في المجتمعات المرهقة، لا يحتاج الاختراق إلى عبقرية. يكفي فراغ. والفراغ الثقافي أخطر من الفراغ السياسي، لأنه لا يُقاس بالأرقام بل بتآكل الذائقة، وبانكسار البوصلة التي تميّز بين القيمة والضجيج. حين تغيب المعايير، تصبح المنصة الثقافية أرضاً رخوة، قابلة لأن تُزرع فيها أي شتلة، حتى لو كانت بلا جذور.

 

الاختراق السياسي للثقافة لا يعمل من الخارج فقط، بل من الداخل. يبدأ حين تُستبدل الأسئلة بالولاءات، والنقد بالمجاملات، والجدارة بسلسلة علاقات هاتفية. عندها لا يعود السؤال: ماذا كتب؟ بل: من يعرف؟ ومن يزكّي؟ ومن يقف خلفه؟ وهنا، بصراحة جارحة، تتحول الثقافة إلى واجهة ناعمة لصفقات خشنة.

 

وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دور المسرّع الكيميائي لهذه العملية. لم تعد السلطة بحاجة إلى مثقف كبير لتبريرها، يكفي “مؤثر” صغير يكرر جملة واحدة بلغة سهلة، يخلط الثقافة بالشعار، ويقدّم الموقف السياسي بوصفه رأياً أدبياً. هكذا يُصنع رأي عام هش، سريع الاشتعال، سريع النسيان، بلا ذاكرة ولا أرشيف.

 

الأخطر من ذلك هو اختراق النخب نفسها. مثقفون يسافرون، يعودون محمّلين بلغة جديدة لا تشبه المكان، يروّجون لنماذج ثقافية معلبة، أو يتحولون – بوعي أو بدونه – إلى وسطاء بين مؤسسات خارجية ومشهد محلي عطِش. في الظاهر: انفتاح. في العمق: إعادة تشكيل للوعي وفق مقاييس لا علاقة لها بالحاجة الحقيقية للمجتمع.

 

الأحزاب المرتبطة بالخارج تفهم هذه اللعبة جيداً. لذلك تستثمر في الثقافة أكثر مما تستثمر في البرامج. تعرف أن القصيدة قد تكون أحياناً أبلغ من البيان، وأن أمسية أدبية يمكن أن تؤدي ما تعجز عنه خطبة سياسية. وحين لا تجد شاعراً حقيقياً، تصنع واحداً على عجل. فالسوق مفتوح، والذاكرة قصيرة، والجمهور مُتعب.

 

المشكلة ليست في أن يكون المثقف سياسياً، فذلك حقه الطبيعي، بل في أن يكون السياسي متنكراً في هيئة مثقف. هنا يحدث التزوير الأخطر: تزوير الرموز. حين يُمنح اللقب بلا منجز، والتكريم بلا تاريخ، يصبح كل شيء قابلًا للاستبدال. الشاعر يُستبدل بالمخبر، والناقد بالسمسار، والمنصة بالمنصة المقابلة لها في أي حزب.

 

الثقافة، في أصلها، فعل مقاومة هادئ. مقاومة للابتذال، للسهولة، وللكذب المريح. لكنها حين تُخترق، تتحول إلى أداة تبرير، أو أسوأ: إلى ديكور. وحين تصير ديكوراً، تفقد قدرتها على مساءلة السلطة، وتصبح جزءاً من صورتها.

 

لهذا، فإن الدفاع عن المؤسسة الثقافية ليس ترفاً نخبوياً، بل دفاع عن آخر خطوط الصد. فحين تسقط المعايير هنا، لن يبقى ما يمنع سقوطها في كل مكان. والاختراق السياسي، حين ينجح ثقافياً، لا يحتاج بعدها إلى كثير من الجهد: المجتمع يكون قد تعوّد على الزيف، وتعايش معه، وربما صفّق له.

 

في النهاية، ليست المعركة بين أسماء وأسماء، بل بين منطقين: منطق يرى الثقافة مسؤولية أخلاقية، ومنطق يتعامل معها كأداة استعمال مؤقت. وبين هذين المنطقين يتحدد مصير الكلمة: إما أن تبقى حرّة، أو تتحول إلى بطاقة تعريف مزوّرة في جيب من لا يستحقها.

المشـاهدات 30   تاريخ الإضافـة 27/12/2025   رقم المحتوى 69339
أضف تقييـم