الجمعة 2024/4/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 35.95 مئويـة
قصة قصيرة حدث هذا في مقهى رضا علوان
قصة قصيرة حدث هذا في مقهى رضا علوان
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

تماضر كريم

................

 

خرجتُ مع نادية صباح اليوم، مع إني لم أحب الخروج معها كثيرا. إنها لاتكفُّ عن الحديث في مواضيع لاتهمني، الموضة، وآخر ما تمّ طرحهُ من أغان، وكيف أصبح وجه كاريس بشار بعد آخر عملية تجميل، ثم تصرّ كثيرا على اختيار مطعم على ذوقها، وتقنعني بطريقة ما، على اختيار البيتزا معها، وتشدني للحديث عن عمليات التجميل وأغاني هيثم يوسف وأليسا، ثم تقترح في ختام جولتنا الذهاب لمقهى رضا علوان. تقول إن للقهوة هناك لذة ما. في الحقيقة لم أستطع أكتشاف  تلك اللذة التي تحدثت عنها.

كنتُ اعرفُ أن مثقفين كثيرون  يقصدون هذا المقهى. لم تكن نادية مثقفةً جدا، لكنها كانت ذات حضورٍ طاغ، وتحبّ التحدث كثيرا  مع الشعراء والكتاب، والرسامين أحيانا، وتحشرنا في جلساتهم. كانت نادية تهزُّ رأسها لأحاديثهم، وتغير جلستها، وملامحها، لتظهر منغمسةً في أفكارهم. وتعرض أحيانا محاولاتها الشعرية، فتقرأ لهم بصوتها ذي النبرة الصافية قصائدها الحداثوية غير المفهومة لي. لكنهم بدوا يفهمونها فقد كانوا يصفقون لها، ويغمرونها بالثناء.

رغبتُ حقا في الرجوع إلى المنزل، والتمدد على السرير، ثمة

فلم وثائقي أحببتُ أن أراه، وقالب كعك اشتهيتُ التهامه، كما إن كتاب رحلات ماركو بولو كان بانتظاري على حافة السرير. كدت أترك نادية مع المثقفين وأعود، لكني أشفقتُ على  أمي، فهي ستشعر بالإستياء، إنها تظن أني في طريقي للإنطواء، وربما الإكتئاب. حصل ذلك بعد انتحار أبي ذات ليلة. لقد رمى بنفسه من الطابق الرابع. تقول أمي أن جد والدي مات منتحرا أيضا، وتحدثت عن جينات ما يتم توارثها في العائلة. تبدأ المشكلة بالرغبة في الإنعزال عن العالم، لذا كانت تدفعني للخروج مع نادية، ابنة صديقتها بكلّ ما أوتيت من قوة في الإقناع، في حين كانت أم نادية تشترط على ابنتها رفقتي، للسماح لها بارتياد بعض الأماكن، شعرتُ أنها تنظر لي كعاملٍ نفسي يجعل نادية أكثرَ اتزاناّ.  كانت أمي تأخذني إلى طبيبٍ نفسي كإجراءٍ إحترازي. أكّد لها الطبيب أني بخير. كنت أشعر أني على ما يرام، ولا رغبة لي في مغادرة العالم كما كانت تظن أمي، لكني ايضا لم أحبْ مغادرة غرفتي كثيرا.

أوشكت جولتنا على الإنتهاء، أعرف ذلك من وجه نادية، ففي كلّ مرةٍ اعتادت أن تغمز لي بطرف عينها، لتُفهِمني أننا سنخرج، كنت في طرف الجلسة، لم يلاحظني الكثيرون، لكن لحظةً ما بدت مختلفة قليلا، فقد لمحتُهُ ينظر لي بطريقة ما، لا أعرف إن كان موجودا من البداية، أم إنه جاء متأخرا. بدا وجهه ذكيا، هكذا بعض الوجوه تترك انطباعا غريبا بداخلي، تبدو يقظة حزينة بدرجة ما. ثمة شحوب خفيف يكسو بشرته، وابتسامة باهتة تطوف على وجهه.

لم أرد أن أبدو مغفلة، قلت لنفسي إنه بالتأكيد ينظر لأحد ما يجلس خلفي. لا أعرف كيف التفتُ إلى الخلف. كانت حركةً بليدةً مني. لم يكن ثمة أحد سواي في مرمى نظره.

-جمانة ...هيا لنذهب!

قالت نادية هامسة، وقد بدت مرتاحة وفرحة، ربما بالتصفيق والثناء والأحاديث مع أصدقائها من المثقفين. لكني لوهلة رغبتُ أن أبقى للحظات أخرى، ربما خطر لي أنه سيأتي ليسألني شيئا ما، ربما سيقول لي أنه يذكرني منذ كنا معاً في الجامعة، آه نسيت..أنا لم أدخل الجامعة، لأني لم أرغب في إكمال دراستي آنذاك، لازلتُ أذكر كيف أن أمي ظلت تبكي لأيام متواصلة بسبب عزوفي عن إكمال دراستي، وقد راحت تذكرني كيف إن نادية دخلت كلية طب الأسنان وستكون طبيبة ناجحة، فيما سأكون أنا ربة بيت خائبة. اليوم أنا بخير، حرة من الدراسة الإجبارية، والعمل القسري، لكن تباً، لو جاء الآن ماذا سيقول لي، أظنه سيخبرني أنه ربما التقاني في شارعٍ ما، حيث علقت نظراتنا واشتبكت. كما تشتبكُ الآن.

- جمانة ما بكِ ؟

- ‏حسناً.

لكلّ شيءٍ نهاية، حتى تلك الأشياء التي لم تبدأ جيدا، مثل حديث عيونٍ قصيرٍ وعابر.

قرب الباب، ندّت عن نادية آهة فرحة:

-أهلا أستاذ .. كنتُ أظنك لن تحضر اليوم، لقد تأخرتَ كثيرا. سأريك قصيدتي الجديدة.

نظرت لي نادية نظرة ذات معنى، وقد اكتفت بقول:

-جمااانة

إنها تريد البقاء فترة ً أطول.

كانت تلك هي المرة الأولى التي لم أتذمرُ فيها من رغباتها المجنونة.

عدتُ إلى مكاني، وجدتُه لايزال في  مقعده،  يتحدثُ مع أحدهم، بدا منسجما معه كثيرا. إستطعتُ تبيّن ملامحه، إنه وسيم، شعره مصفف بعناية إلى الوراء، يتكلم بثقة ملفتة وحركات يديه هادئة وحاذقة.

لقد انتبه لعودتي، ها هو يقوم من مكانه، ويتجه نحوي. جلس قريبا، وللحظة بانت ارتجافة خفية في صوته وهو يسألني:

-مرحبا

-‏مرحبا

-‏أنت صديقة نادية؟

-‏نعم.

-‏هل تكتبين الشعر؟

-‏لا.

-‏تكتبين القصة إذن؟

-‏لا...في الحقيقة أنا لا أهتم كثيرا بالأدب، أنا أقرا كتب الرحلات فقط.

-‏ولماذا كتب الرحلات فقط؟

إحتجت للحظات قليلة، لأجد إجابة ما، لكني لم أعثر عليها، ربما لم أستطع أن أشرح ببساطة تلك المشاعر والرؤى التي تنتابني وأنا أقرأ كتب الرحلات. لم أكن محبة للسفر كثيرا، حتى إني كنت أجد صعوبة بالغة في مرافقة أمي برحلاتها المتكررة بين فترةٍ وأخرى.

لكني كنت أحلّق مع كاتب الرحلة في الأمكنة، والأزمنة التي يعيشها بطريقة ما.

كان قريبا، لكن عينيه بدتا بعيدتين. ربما صدمه أني غير مهتمة بالأدب،

كأني قطعتُ جميع فرص الحديث بيننا. لم أجرب كثيرا أن أكون مبادرة في حديث ما، لكني قلت له أخيرا:

-وأنت أستاذ! هل تكتب الشعر؟

-‏نعم أنا شاعر ..

كانت ابتسامته ذات مغزى. هل كنتُ مضحكة عندما ناديتُه أستاذ!

أظن أنه يفكر في شيءٍ ما، فقد كان ينظر لي بغرابة. لقد شعرتُ بالأسى والخجل، ورغبت في ترك المكان بسرعة. كدتُ أقوم من مكاني لولا أنه مدّ يده لي بكتاب:

-لو كنت تحبين أن تقرأي! هذا آخر إصدارٍ لي.

-‏نعم أحب .. شكرا.

-‏هل قرأتِ أشعاراً لنادية؟

-‏لا.

-‏إنها تكتبُ شعراً جميلاً.

لم أتوقع أن أحزن هكذا لإعجابه بها. في تلك اللحظة باغتني شعور بالإستياء، منه، ومني ومن نادية التي بدت منسجمة مع كل شيء حولها، مع المكان...مع الشخص الذي تتحدث معه وهي تعبث بخصلات شعرها باسمةً مبتهجة، مع الوجود بأكمله.

-أظن أن الشعر لم يعد مهماً في حياتنا

كانت تلك طريقتي التي أسعفني بها كبريائي للإنتقام.

-هل أنت جادة؟

-‏نعم ..لاسيما الشعر الحديث! أنا لا أفهم شعر نادية مثلا..إنه أشبه بأحاجي مملة..

-‏هذا يعني أنك لن تقرأي كتابي!

-‏نعم سأقرأه بالتأكيد .. أرجوك لا تظن أني أحتقرُ الأدب، أنا فقط لا أفهم أكثر ما يقال من شعر في هذا المقهى.

-‏ما رأيكِ أن تجربي الآن قراءة قصيدة من قصائدي.

-نعم ..لكني سأقول رأيي بلا مجاملات.

لقد كانت ابتسامته حانية على نحوٍ غريب. للحظة بدا لي أنه يفهمني أكثر حتى من فهمي لنفسي. لقد ارتعشت كفي وأنا أقلّب في كتابه لأختار قصيدة، حتى إني لم أهتم لنادية التي أشارت لي بالذهاب.

بسهولة لاحظتُ مدى استغرابها لاستغراقي في الحديث. أعرف أنها عندما تنضم إلينا، ستأخذ أجواء جلستنا بالكامل.

قلتُ له بسرعة:

-لنذهب هناك.. أريد أن اقرأ بهدوء.

جلسنا في الباحة الخارجية للمقهى. كان الوقت قريباً من الظهيرة، في هذا الوقت يقلُّ عدد الزبائن، كنتُ قد بدأتُ أقرأ، لكن ذهني كان مشتتاً بالكامل. فقد شعرتُ أن نظرات نادية تلاحقني بشيءٍ من الغضب. ربما هي  معجبةّ به!  فهما يعرفان بعضهما. كنتُ اقرأ بلا تركيز، حاولتُ كثيرا أن أفهم الصور التي يرسمها بالكلمات، وأفكك رموز قصائده، لكن عينيّ وحدهما كانتا تمران على الحروف، والعناوين. فكرتُ أنه سيلاحظ ارتباكي، وإحساسي بالشتات. نظرتُ إليه. بدت ملامحه هادئة تماما، في حين كانت ابتسامته الحانية الودودة تبث الإطمئنان في قلبي، وأخيراً أغلقتُ الكتاب، وقلتُ متشجعة:

-في الحقيقة لم أفهم شيئاً، لكن ثمة جمال  ما في السطور.

-‏حقا؟! هل غمرك إحساس دافيء؟

-‏نعم

أجبتُ بشغف وثبات.

-ستحبين الشعر..وربما تكتبينه ..ثقي بي.

-‏وكيف تعرف؟

-‏أعرف فحسب..ربما لأنك تملكين هذه الروح الجميلة.

-‏آه ..شكرا .

وحدي أنا كنت أعرف كم كان قلبي ينبض في تلك اللحظات بطريقة مغايرة، وقع نظري على نبتة الصبار القريبة،  لم تبدُ لي في تلك اللحظة كنبتة صبّار، لم تكن ثمة أشواك واضحة فيها، مددتُ يدي نحوها  لكي أداري مشاعري المضطربة، للحظة لم أشعر بشيء، ثم اكتشفتُ الحقيقة المفزعة، أن كفي مليئة بأشواك دقيقة جدا، تشبه في دقتها الشعر. أي نبتةٍ لعينة تخفي سلاحها هكذا.

لن أبدو بلهاء أبداً، لن يعلم أن يدي مثقلة بهذا الألم. ليس أمراً صعبا ابتلاع كلّ هذا الوجع والتظاهر أنك بخير!

-عزيزتي ما بكِ؟ هاتي يدك!

-‏لاشيء مهم ..أنا بخير.

-‏أرجوك! دعيني أرى.

-‏لكن كيف عرفت!

-‏أرجوك.. لقد وضعتِ يدك على الصبار ..انت مجنونة..دعيني أرى.

شهق وهو يشاهد كفي التي صارت بين كفيه:

-يا إلهي! علينا أن ننتزع هذه الأشواك.. هل تتألمين؟

-‏لا أعرف.

-‏ماذا؟ أنت مجنونة!

عندما اقتربت نادية، بدت الدهشة ظاهرة على ملامحها وهي تشاهد كفي في كفيه. إرتفع صوتها قليلاً وهي تخبرني أنها ستذهب.

كان يواصلُ انتزاع الأشواك، وهو يقول لها:

- نادية إنتظري قليلا.

وضعتْ نادية قدماً فوق الأخرى، ويبدو أنها قررت الإنتظار، ثم سحبت كتابه وراحت تقرأ:

-هل تعرف شهاب؟  أنك أفضل من كتب قصيدة النثر!

للحظة رفع عينيه مبتسما لها:

-شكرا عزيزتي نادية ..أنت مذهلة.

-‏إنها الحقيقة يا صديقي..أنا لا أكتفي من القراءة لك.

رغبتُ حقا في سحب يدي. رغبتُ في البكاء أيضاً. لكني لم أستطع الحراك. كنت جامدة تماماً مثل نبتة الصبار. ويدي ملقاة هناك بين يديه.

كانا يتحدثان، ويضحكان قليلاً، فيما كنت أشعر أني طارئة على المكان، على الشعر الحديث، على المقهى، عليهما. تباً متى تنتهي هذه الأشواك لأعود إلى غرفتي وأنام!

-آه شهاب...لقد أصبحت مملاً، ألم تنفد تلك الأشواك...تباً!

ألقتْ نادية تلك الكلمات ثم دخلتْ إلى صالة المقهى. ضحك شهاب وهو يقول لي هامساً:

-نادية تريد أن تكون بطلة كلّ القصص! ماذا عنك أنتِ؟

-‏لا افهم ماذا تعني؟

-أظن أن يدكِ الآن بخير..ضعي عليها بعض الثلج عندما تصلين للمنزل.

كانت يدي لاتزال بين يديه، وهو يخبرني أن اعتني بنفسي. لقد كان ملمسهما دافئاً جدا، حتى إنه بدا أكثر دفئاً من كفي أمي.

لم أعرف ماذا أفعل أمام عينيه، وددتُ أن لا تنتهي تلك اللحظات، ثمة شغف وكلام كثير فيهما كأنه قصائده الجميلة غير المفهومة. تلاشت المسافة بيننا، وغمرتني أنفاسه القريبة الدافئة، وقد انطبقت شفتاه على فمي، للحظة..للحظتين، لعمرٍ من الألم والإنتظار

 

المشـاهدات 332   تاريخ الإضافـة 27/05/2023   رقم المحتوى 22093
أضف تقييـم