الثلاثاء 2024/11/12 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 18.95 مئويـة
"حاجة تخوف" تناقش أزمة الخوف البشري
"حاجة تخوف" تناقش أزمة الخوف البشري
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

القاهرة - النفس البشرية بئر الأسرار العميقة المخبأة داخل أغوار سحيقة، مظلمة، لا يعلم بها إلا ربها، ولا أحد يمضي في طريق الحياة دون خطأ، لذلك فإن المرء إذا نظر في مرآته بصدق بحثا عن رؤية حقيقته فإنه قد يتملكه الخوف مما يراه عندئذ من أشياء مرعبة.الفكرة تناقشها مسرحية “حاجة تخوف” للمخرج المصري خالد جلال، وتعرض حاليا على مسرح مركز الإبداع الفني في مقر دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، كمشروع تخرج قسم التمثيل بالمركز، الدفعة الثالثة “ب” المسماة بدفعة “علي فايز”، بطولة 51 ممثلا وممثلة، أغلبهم من الوجوه الواعدة، المبشرة بجيل جديد من المبدعين في مجال التمثيل.يبدأ العرض خلال دخول الجمهور بتمهيد مسبق، يحضِّر الجميع قبل استوائهم على مقاعدهم لأجواء مخيفة، بظهور ثلاثة فتيات بملابس سوداء وأعين زائغة وقيامهن بحركات غامضة، وسط إضاءة خافتة على المسرح وموسيقى غرائبية.تدور القصة حول تعطل حافلة تضم شخصيات عدة في منطقة نائية، وظهور شخص غريب يرتدي ثيابا رثة ويحمل مصباحا، يدل مستقلي الحافلة على منزل وحيد في المنطقة يمكنهم اللجوء إليه للبقاء فيه حتى الصباح.

 

داخل القصر المهجور

 

يضطر الركاب إلى السير وراء الغريب رغم هيئته غير المريحة، ولعب دوره الأكاديمي أشرف مهدي باقتدار، ليصلوا جميعا إلى البيت الذي يشبه القصر المهجور، وسكانه لا يقلون غرابة عن الدليل، هم صاحب البيت وبناته الثلاث المخيفات كأنهن مسوخ.يُصدر صاحب البيت، الذي لعب دوره الممثل محمد نديم، تعليماته للضيوف الذين يزدادون رعبا شيئا فشيئا، فيخبرهم بأن جميع أبواب القصر يتم إغلاقها تماما منذ موعد غروب الشمس حتى ظهور الضوء في الفجر، فلا أحد سوف يتمكن من الخروج خلال هذه الفترة، وبعد أن يرحب بهم يحذرهم من النظر في المرايا العديدة الموجودة في كل جنبات البيت كي لا يصيبهم مكروه.فجأة، تدوي صرخة مرعوبة، ومرعبة، على لسان إحدى بطلات العرض “أنا ما عملتش حاجة” لتبدأ عندئذ الحكاية، أو الحكايات التي يستعيد فيها كل الأبطال حقيقة أنفسهم، ويتذكرون أخطاءهم، بعد أن عجزوا جميعا عن تجاهل النظر في المرايا.المخرج خالد جلال هو مكتشف النجوم وصانع الأبطال، من خلال مركز الإبداع الفني الذي تخرج فيه فنانون كثيرون، صاروا نجوما وأبطالا يحبهم الجمهور، ومنهم محمد ممدوح ومحمد فراج وبيومي فؤاد وآخرون.يقدم العرض المسرحي “حاجة تخوف” مواهب تمثيلية مبشرة، قام أصحابها بأداء أدوار أبطال الحكايات المخيفة المتعددة، في مشاهد منفصلة متصلة، يجمع بين شخصياتها الضعف البشري والخوف والخطأ.تضم قائمة المشاركين في المسرحية كلا من هبة كامل ومحمد حسيب وأشرف مهدي ومي حمدي ونادر جودة ويحيى محمود ونهى نبيل ومحمد نديم وشريف رجب وخلود خالد ومحمد سراج ومنة حمدي وأسماء غنيم ونورا نبيل وشريف إسماعيل ونانسي السمري.تتعرض الحكايات بتنوع يمزج بين الكوميدي والتراجيدي لواقع حياة الإنسان المعاصر ومشاكله الشخصية والعامة. وغلب على ملابس الشخصيات اللون الأسود، يتخلله ما يبدو بقعا ملونة في الثوب، لتعبر الأزياء عن النفس البشرية في لحظة مواجهة الذات.تضم القصص حكاية اثنين من عازفي الربابة يذهبان لعزف سيرة أبي زيد الهلالي الفولكلورية أمام لجنة تابعة لهيئة دولية، لكنهما يفاجآن بطلب اللجنة منهما المشاركة بالتمثيل في أعمال حول موضوعات أخرى، مثل الملكة المصرية كليوباترا التي ستظهر في العمل بهيئة تشير إلى أصول أفريقية لها، على خلاف الحقيقة، أو قصة عائلة ألمانية تنتشر بين أفرادها علاقات الشذوذ وزنا المحارم، ويرفض بالطبع أحد العازفيْن، لكن الآخر يفتح فمه ذهولا أمام قيمة العرض، التي تبلغ مليون دولار بالإضافة إلى مرتب شهري، فيتوقف ويسقط تحت وطأة الضعف البشري.وهناك شاب اعتاد تصوير فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي حول كبار المبدعين المصريين، أخلاقهم وسلوكهم، فيحكي قصة رفض الأديب نجيب محفوظ استخدام مكتب المفكر توفيق الحكيم في جريدة “الأهرام”، رغم أنه تم منحه إياه بعد أن خلا بوفاة الحكيم، لكن محفوظ لم يستطع الجلوس على مكتب أستاذه بعد وفاته تأدبا وخلقا.ولا تنال بالطبع فيديوهات الشاب سوى القليل من المشاهدات والإعجاب، فيجذبه صديق له إلى مشاركته في فيديوهاته الخالية من أي محتوى، ويرتدي فيها ملابس فجة ويتحدث بطريقة غريبة، لكنها تحصد اهتمام الملايين من المتابعين وتسري بينهم كالنار في الهشيم. يشترك الشاب المثقف في العمل ويتنازل عن فكرته في بث القيم الأصيلة، يسقط أمام ضعف النفس البشرية.شارك في العمل المسرحي كل من أحمد خليل وجهاد أشرف ومحمود جراتسي وحبيبة زيتون ومجدي حمزة ولقاء الصيرفي وعمر أسامة ومحمد حسين مودي وسلمى هاني ونزار سيف وهبة السويسي وآية سليمان وأمنية سيد وعمر لطفي وشيماء عصمت وحبيبة النادي وشيماء بن عشا من المغرب ومصطفى منصور وشاهندا علي.لا يزال الليل طويلا على مستقلي الحافلة المعطلة، المحاصرين داخل القصر حتى مطلع الفجر، الناظرين إلى أنفسهم في المرايا، خائفين مرتعشين مضطربين، عاجزين عن الفهم، صارخين في كل حين “أنا ما عملتش حاجة”، أي لم أفعل شيئا.هذه طبيبة اعتادت تسهيل سرقة الأعضاء الداخلية للمرضى المتوفين، قبل خروج جثامينهم من ثلاجة المستشفى التي تعمل بها، مقابل مبالغ مادية كبيرة تحصل عليها من المستفيدين. صفقات دائرة وأرباح طائلة، حتى اعتادت الجانية المسألة دون النظر حتى إلى اسم المتوفى، وما إذا كان رجلا أو امرأة. وفي النهاية كان لا بد أن تقع الواقعة، فوجئت بأن المتوفاة التي انتهت للتو سرقة أعضائها هي أمها. تبكي وتصرخ بجنون، لكن ما جدوى الصراخ وقت لا ينفع الندم.

 

قصص الضعف الإنساني

 

تتعدد قصص السقوط أمام الرغبات والشهوات، لأجل المال أو الشهرة أو الحب، من الزوج الخائن مدعي الشرف الذي تسبب في وفاة سيدة أحبته بصدق، إلى الخادمة القاتلة التي أرادت ألا تفارق ابني سيدة البيت اللذين ربتهما كابنيها، فقتلت أمهما بدس السم لها، وصولا إلى الإخوة قاتلي الطفل ابن أخيهم الذي  سرق ميراثهم، كي لا يرث أموالهم من والده.“حاجة تخوف” فعلا.. هي أمور مرعبة، ومنحدرات مريعة، قد تنزلق إليها النفس البشرية بعد أن تزين لصاحبها صورة الشر في لحظة طمع أو كذب، لكنها عندما تعود لتنظر في مرآتها لا تملك إلا أن تشعر بالفزع من هول ما فعلت ورأت.عبر عن كل هذه القصص وأدى الشخصيات ممثلون موهوبون، منهم محمد إبراهيم ومنار عمار وشريف حليم ودنيا حلمي ورامي صابر وسلمى أبوسعد وأحمد حسام ومريم حاتم أمين ومارك نادي ومريم محروس ومحمد القرشي ونسمة نورالدين وباسم الجندي وأحمد سيف وعبده فضل.تكاملت مختلف عناصر العمل لتعبر عن الفكرة وتعكسها أمام المشاهد بدقة وصدق، من الإضاءة إلى الديكورات، ومن الصوت إلى الموسيقى، بجهد كبير للمخرجة المنفذة علا فهمي، تحت قيادة المخرج خالد جلال، الذي ظهر في بداية العمل ليلعب دور الراوي، ثم سرعان ما اختفى ليسلم زمام السفينة إلى تلاميذه المبدعين، خريجي الدفعة الحالية لمركز الإبداع الفني.يغوص المشاهد في تفاصيل القصص، المخيفة منها والمؤلمة، الضاحكة والمبكية، بفضل صدق أداء أصحابها على المسرح، ليتساءل قائلا “أما آن لهذا الليل الطويل أن ينجلي؟”.ويتطلع إلى معرفة مصير هؤلاء الأبطال الذين يدافعون بصرخاتهم عن أنفسهم داخل القصر، مؤكدين بفزع ورعب أنهم لم يفعلوا شيئا، لكن الصور القادمة من حيواتهم الماضية تكشف أنهم فعلوا الكثير مما هو آثم وخسيس، فكيف يكون مصيرهم وهم يسقطون الآن بفعل الرعب فحسب الواحد تلو الآخر؟يطلع النهار وتنفتح الأبواب بعد أن يقتل الأبطال صاحب البيت وبناته المخيفات، أو الأدق أنهم يقتلون الخوف بداخلهم ليتمكنوا من المضي قدما في طريق الحياة وينجحوا في مغادرة القصر المهجور، قصر الخوف.وهم يعترفون، ردا على صرختهم السابقة “أنا ما عملتش حاجة”، بأنهم “لأ.. احنا عملنا حاجة”؛ أخطأوا وأجرموا وأذنبوا، لكنهم يقررون ألا يبقوا أسرى خوفهم وعذاب ضمائرهم، بشرط ألا يكرروا خطاياهم، “المهم إننا ما نكررش اللي عملناه”، (المهم ألا نكرر ما فعلناه) وأن يكونوا صادقين في مغادرة الماضي فعلا على مستوى السلوك والتذكر معا.لكن هل هذا ممكن؟ هل مغادرة الخوف بالكامل أمر وارد؟ السؤال يطرحه العمل المسرحي بنفسه في آخر مشهد فيه، عندما يُفاجأ الجمهور بفتيات القصر المخيفات، اللاتي قتلهن الأبطال قبل قليل، يستيقظن ليضحكن نفس الضحكة المرعبة المنذرة المتوعدة، فالخوف الإنساني لا يموت، لكن المهم هو تحجيمه وحسن التعامل معه، واعتباره طاقة دافعة لا قوة معطلة.

 

محمد شعير

 

 

المشـاهدات 111   تاريخ الإضافـة 09/09/2024   رقم المحتوى 53076
أضف تقييـم