الأحد 2025/5/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
نيوز بار
إلى ماذا يريد الأدب العراقي الوصول؟!!
إلى ماذا يريد الأدب العراقي الوصول؟!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

اشارات استفهامية/ شوقي كريم حسن

لنبدأ بلغة لا تخلو من القسوة، لا مجاملة فيها ولا تزويق… فالأدب العراقي، كما نراه اليوم، قد هجر الناس، تخلّى عنهم، عن أحلامهم الصغيرة، وجراحهم اليومية، وعن بهجتهم المرة. صار فعلاً نخبوياً يلهث خلف تكريمات الأحزاب، ورضا السلطات، وملء الاستمارات الثقافية التي لا تمنح سوى شهادة مشاركة وتذكرة حضور. هذا الأدب الذي كنا نريده ناراً تُشعل في الروح وعياً، صار يرضى بأن يكون ضيفاً في حفلات الاستقبال ومادة في خطابات الوزارات.

الحكومات لا تخلق أدباً. هذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات. هي لا تفكر في الناس بل في السلطة. وما تقرّبها من الأدباء إلا لتُقال عنها جملة وحيدة في نشرة الأخبار: “لم تهمل الثقافة”. فتُصرف الأموال باسم الثقافة، لكنها تذهب حيث تذهب ميزانيات الأوهام. أما الدعم، ففعل سياسي خالص، يُمنح بشروط السلطة وينتهي حال انتهاء المصلحة، وأدب يُموَّل ليُدجَّن لا يُعوَّل عليه، ولا يُخشى منه.انظر إلى الشعر، كيف تم اختزاله في احتفاليات فاخرة تُقرأ فيها قصائد ميتة، لا تمتد جذورها إلى الأرض، ولا تجرؤ على النظر في عيون الجمهور. أين هو الشعر الذي خرج من فم الجواهري كصرخة في وجه العروش؟ أين قصائد السياب التي ما زالت تمطر في الذاكرة كأمطار البصرة الحزينة؟ ما الذي تبقّى من روحية مظفر النواب سوى استذكار بارد في قاعة مؤتمرات؟

أما الرواية، فقد تعبت من كثرة ما كُتِب عنها، وكثرة ما كُتِب فيها. أغلبها يسير نحو الجوائز، لا نحو الصدق. تُكتب الرواية لتُقرأ في لجان التحكيم، لا في المقاهي والبيوت. شخصياتها مشغولة بمصيرها الورقي، لا بمصير وطنها. تسرد الحكاية كي تُرضي ذائقة خارجية، لا ضميراً داخلياً يعترف بالخوف ويواجهه.وفي الفن، ما عدنا نرى النحت الذي ناهض الصمت، ولا الرسم الذي أثار الخوف في السلطة. كل شيء اليوم مؤطر بعناية، ملون بما يناسب قاعة العرض، خاضع لما تسمح به الرقابة أو ما تموّله المكاتب الثقافية. أين ذهب فن شاكر حسن آل سعيد وهو ينحت الحلم من التجريد؟ أين ارتحلت قسوة الرؤيا عند رافع الناصري؟ بل حتى المسرح، وقد كان يومًا خندقًا للمواجهة، أُفرغ من جرأته وصار صوتًا تابعًا للجهة التي تموّله، إلا من بعض المحاولات التي لا تزال تقاوم بصعوبة وسط الخراب.نريد للأدب العراقي أن يعود إلى الناس، أن يخرج من القاعات المكيفة إلى شوارع الحزن والصبر. نريده أن يكون لسان الفقير، وضمير الجائع، ونبض المُهمّش. أن يكون نارًا في وجه الظالم لا بخورًا في مكاتب المسؤولين. أن يُكتَب بعين مفتوحة على الشارع، وأذن تسمع وجع الأرملة، وقلب يرتعش من أجل طفل بلا دواء.لا نريده أدبًا مهادنًا، ولا مسالِمًا، ولا باحثًا عن جائزة أو لقب. نريده أدبًا يصرخ، يشتم،يعترض، ويبني في ذات الوقت. لا نريده أن يتجمّل، بل أن يعرّي. لأن من لا يواجه القبح لا يصنع الجمال.فليُكتَب الأدب العراقي كما يُكتَب الدم، لا كما تُكتب الخُطب. نعم، ليتواصل الكلام بلا حياد زائف، فالعراق لم يكن يوماً مكاناً محايداً. كل شيء فيه إمّا جرحٌ نازف أو صرخة مكتومة. والأدب، حين يتجمّل بلغة ملساء ويكتفي بتوصيف الخراب دون أن يُدين صانعيه، فإنه يصبح شريكاً في الجريمة، لا شاهداً عليها.كم من كاتبٍ اليوم يكتب وفي رأسه سؤال: “هل ستغضب الوزارة؟ هل سيُمنع الكتاب؟ هل سيُستدعى للتحقيق؟”… وبهذه الأسئلة يموت الأدب قبل أن يولد. الأدب الحق لا يُولد من موافقة، بل من تحدٍّ. ولا ينمو في رعاية حزب، بل في تربة الخوف والرفض والعناد.كنا نسمع عن شعراء يبيتون في الزنازين لأنهم كتبوا بيتاً واحداً يهز النظام. والآن نرى دواوين كاملة لا تهز حتى جملةً مكرورة في نشرة أخبار. كنا نقرأ روايات تفضح، تسخر، وتكسر الطابوهات، لا تبحث عن التوازن بين الضحية والجلاد. وكأن الجلاد بحاجة لمن يُنصفه!أي أدب هذا الذي يُراقب أنفاسه قبل أن يكتب؟ أي فنّ هذا الذي يُفصَّل حسب مقاسات العرض والطلب؟ حتى النقاد، صاروا يمارسون المجاملة كأنها فضيلة. يُسقطون الأسماء الكبيرة كي لا يغضبوا المؤسسات، ويصمتون عن التجارب الحقيقية لأنها بلا ظهر.الناس هجرت الأدب لأنها لم تجد فيه نفسها. وجدت فيه أسماءً مكرورة، وجوائز توزَّع كما توزَّع المناصب، ومهرجانات تعاد كل عام كنسخ باهتة بلا روح. لم تجد الجدة الحزينة التي تبيع النعناع في الزوايا صوتها في القصيدة. لم يجد الجندي المكسور في جبهات العبث نفسه في الرواية. لم تجد الطفلة اليتيمة في مدن النزوح لوحةً ترسم جوعها وشوقها لأمها.فما نريده اليوم ليس ترف الأدب، بل ضرورته. أن يعود ليكون عصب الحياة، لا زينتها. أن يُكتَب بما يشبه الطين الذي نمشي عليه، والدم الذي نخاف من سطوعه، والصرخة التي نخنقها في الحلق. نريده أن يكون مواجهة لا مراجعة. أن يكون ضوءاً لا مرآة. أن لا يكتب إلا حين يكون صادقاً، حتى وإن لم يُطبع، حتى وإن مُنع، حتى وإن لم يُقرأ.الأدب العراقي يجب أن يتحوّل من واجهة إلى قاعدة. من فعل فردي إلى صرخة جماعية. من تكريم عابر إلى فعل مقاوم. أن يعيد تشكيل الروح العراقية التي أرهقتها الحروب، وشوّهتها الطائفية، وسرقتها السلطة. فليس الجمال في اللغة وحدها، بل في الموقف منها. وليس الأدب بما نملك من مفردات، بل بما نجرؤ أن نقوله بها.

نريده ناراً لا برداً. حياة لا مناسبة. فعلَ حبٍّ لا طقوس عبادة. وصرخةً… لا تصفيقاً. وحين نقول “صرخة”، لا نعني الغضب المجاني ولا الانفعال العابر، بل الوعي الذي يحرق. الكلمة التي تصحو بها ذاكرة وطن، لا التي تُنسى بعد انتهاء المهرجان. إن الأدب الحقيقي لا يخشى العزلة، ولا يتحالف مع القوة، ولا ينتظر مكافأة. بل يسير على حافة الرفض، ويعرف أن الأثر لا يُقاس بعدد الحضور، بل بما يُخلّف من زلزال في القلب والعقل.في لحظات كبرى من تاريخنا، لم تنقذنا الجيوش ولا الأحزاب، بل القصيدة، الرواية، الأغنية، اللوحة، المشهد المسرحي الذي أزعج الوزير فهدد بقطع التمويل. تلك اللحظات كانت تحديًا حيًا، لا مجرد احتفاء رمزي. فهل نعيد للأدب تلك القوة؟ هل نُخرج الكلمة من تحت عباءة المدح، ونُطلقها لتضرب حيث يجب أن تضرب؟ لا إصلاح من دون مواجهة. ولا مواجهة من دون لغة صلبة، مُغامِرة، لا تعرف الخضوع.

إن ما نكتبه اليوم ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة أخلاقية. لأننا إن لم نكتب ما يجب، سنجد أنفسنا نُصفّق لمن سرقنا، ونكتب لمن أهاننا، ونرسم مديحًا للقبح الذي يحاصرنا من كل الجهات. لا خلاص من دون أدب يعيد ترتيب الأسئلة، ويهدم الأصنام الثقافية، ويعترف بأننا لم نكن بخير، ولا زلنا.لم يعد يكفي أن نقول الحقيقة. يجب أن نصرخ بها، أن نجلد بها الوعي العام حتى يصحو. لا نريد لأدبنا أن يُسكِت الآلام، بل أن يفضح من تسبب بها. لا نريد أن نهدئ النفوس، بل أن نثيرها كي تخرج من سباتها.نحن بحاجة إلى شاعر يكتب وكأنه يُعدّ لثورة، إلى روائيّ لا يرتب فصوله من أجل لجنة، بل من أجل ضمير موجوع. إلى فنان تشكيلي لا يختار ألوانه لإرضاء الغاليري، بل لخلخلة التوازن الكاذب. نحتاج إلى مسرحيّ يفتح الستارة على واقعنا العاري بلا رحمة، بلا رتوش.

هكذا فقط، نستعيد أدبًا يشبه العراق… العراق الذي لا يزال يبحث عن صوته في الخراب. العراق الذي، رغم كل شيء، لا يزال ينجب مَن يكتبون وهم يعرفون أنهم لن يُنشروا، ولن يُكرَّموا، وربما لن يُسمَح لهم حتى بالقراءة في أمسية.لكن هؤلاء هم الأمل… وهم وحدهم من سيُعيدون للأدب العراقي ما فقده: جرأته، صدقه، وعلاقته الحقيقية بالناس. ولأننا نكتب عن العراق، فلا بد أن تكون الكتابة محفوفة بالخطر. لا شيء في هذا البلد يُكتب بأمان… حتى القصيدة إن صدقت، فهي جريمة. والرواية إن خلعت ثوب المجاملة، فهي إعلان حرب. الفن الصادق هنا ليس زينة، بل وصمة، لأن السلطة بجميع وجوهها تخاف من الصدق، وتحذر من الكلمة الحرة أكثر مما تخاف من أي سلاح.

وهذا يعني شيئًا واحدًا: إننا لا نملك رفاهية الصمت بعد الآن.الصمتُ تواطؤ، والمجاملة جريمة، والسكوت عن الرداءة مساهمة في تكريس الخراب. لا يجوز أن نكافئ الموهبة الزائفة ونمرّ على الإبداع الحقيقي مرور الكرام. لا يجوز أن نسمح بتحوّل النقد إلى علاقات عامة، وتحوّل المهرجانات إلى سوق للترفيه الرديء.

لقد اختُطف الذوق العام، وحوصرت التجارب الكبيرة في الزوايا. صارت اللجان تتناوب على خنق ما تبقّى من الإبداع الصادق، بحجج لا علاقة لها بالفن ولا بالإنسان. والكاتب الحقيقي، إن لم يخضع، حُذِف من المشهد. وإن صرخ، قيل عنه مريض، غاضب، حاقد. كأن المديح وحده هو ما يشفع للكاتب، وكأن الأدب خُلق ليكون مطية للرضا السياسي والاجتماعي.لكن الحقيقة أعمق من كل هذا. الحقيقة أن العراق بلد لا يُكتب عنه إلا إذا احترقت، ولا يُكتب له إلا إذا خُذلت، ولا تُكتب منه الكلمة إلا إذا نُزِفت.نريده أدبًا بلا أوهام. بلا عرّابين. بلا مؤسسات تجمّل القبح باسم الثقافة. نريده أدبًا يعود إلى بيت الفلاح، إلى مقهى العامل، إلى حكايات الأمهات، لا أن يظل حبيس الصالونات والمهرجانات التي لا تعرف ما يجري في الشارع.

لن نسأل إلى أين وصل الأدب العراقي، بل نسأل: إلى أين يجب أن يعود؟ إلى الجذر… حيث تُزرع الكلمة في طين التجربة، وتُسقى بدمعة الخيبة، وتورق في وجدان الناس. نريده أدبًا شعبيًا بمعناه الثوري، لا الشعبي بمعناه السوقي. أدبًا يُترجم وجع الإنسان لا لغة الإعلان.وحين يتحقق ذلك… حين يُصبح للأدب موقف لا شعار، وعين لا مجاملة، وقلب لا خوف… سنقول إن الأدب العراقي لم يعد منتَجًا ثقافيًا يُسوّق، بل فعل حياة يُعاش. وعندها فقط، لن نكون قد كتبنا نصًا… بل كتبنا العراق….!!

المشـاهدات 26   تاريخ الإضافـة 02/05/2025   رقم المحتوى 62414
أضف تقييـم