
![]() |
سعاد السامر ومسرحة القصيدة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
أمّا قبل: فمن عالم البرامج المتلفزة، ومن ساحة الأفلام الوثائقية تنتقل الصورة الشعرية مع العراقية سعاد السامر من واقعية المشهد إلى فانتازيا محلقة في سماء القصيدة، ثم تأخذنا على حين قافية من شكلانية التصوير الذي يرتكز على ثلاثة قوائم راسخة هي اللغة الباذخة، والرؤية الفكرية المشعّة، والإيقاع الهاديء الذي يتأرجح مثل بندول ساعة حائطية ما بين الذات الشاعرة والقافية الضاجة بالحياة، ثم تذهب بنا السامر بعيدًا حيث عقلانية التصوّر؛ لنمتشف العلاقة الشائكة بين الصورة والتصوير. لقد أرادت سعاد السامر أن تجرّ الشعر إلى ساحة السينما، ولكنه نجح في أن يخطفها والسينما إلى عالمه الذي يرتكز كليًّا على الصورة الشعرية الحاكم الأوحد بين الشعر وغيره من الفنون؛ وفق هذا المثال:[هي البصرة الفيحاءُ عمَّ نعيمها/ لها شاربُ الدنيا الممشط يهتز- سواعد أهليها تشذب نخلَها/وتحت ثراها الحر يختبئ الكنز- وللأهل أرواح تُسبِّح باسمها/كأن سما (العشار) يحرسها حرزُ- تلوح لأنوار الخليج بخمسة/ وعشرين إذ فيها العُلا فوز ُ- وتحت لهيب الشمس سار رجالُه/ وملاعبهم تزهو يزينها العزُّ]. غير أن اشتغال سعاد السامر بالسينما، وانشغالها ردحًا من الزمن بعالم التلفزة ترك أثره عميقا في ذائقتها الشعرية، وجعل الصورة الحسّيّة عمود الخيمة في قصيدتها، مع الارتكاز على الاستعارة في الانتقال من الصورة الحسيّة إلى الصورة التجريديّة؛ ولربّما نجحت بفطرتها الفنية في توظيف تقنية المونتاج في الوصول إلى هذه الغاية دونما تقصّد منها. وهنا يمكن رصد ثلاثة أنواع من الصور: (الصورة اللونية) ومعها تبدو القصيدة كلوحة تشكيلية تحيل النص المكتوب إلى شخوص مع ضربات الفرشاة تسبح في فضاء القصيدة، و(الصورة الضوئية) تلك الصورة النابضة بالحياة والحركة والتعبيرية وذات الحس الانطباعي، و(الصورة البصَريّة)؛ وهذا النوع من الصور الأكثر واقعية واستباقًا إلى الرسوخ في ذهن القاريء لأنها أقوى وأوّل المُدرِكات المحيطة بالإنسان، والتي تشكل وعيه وتؤثّر في أحكامه، ومثال ذلك نجده في هذا المقطع: [ياناثرَ الورد بين الجفن والهدب/دمع سقى الخد حرّاق وذو لهب- العطر يعرف فالأزهار مسكنها/ أرض وأشواك حرف من لظى الشهب- جلُ النجوم ستنأى عن مواقعها/ سوى ترابٍ لجذر الورد مُنجذب]. وانطلاقا مما سبق يمكننا هنا إثارة قضية فكرية فعلى الرغم من أهمية التصوّر الذي عبر عنه "أولمان" حول رغبته في هدم الهوة بين طرفي الصورة، أي التشبيه والاستعارة، فإن موقفه يحتاج إلى تأمل ومناقشة؛ لأن التسوية بين الصورتين يهون من القيمة الفنية للاستعارة، ويرفع من القيمة الشعرية للتشبيه أكثر من قيمتها الحقيقية، ذلك أن وظيفة التشبيه تقتصر على التقريب بين واقعتين مختلفتين تنتميان، في غالب الأحيان إلى العالم الخارجي، أما الاستعارة فتتجاوز الحدود المنطقية بين الأشياء لتخلق من الأشياء المختلفة والمتنافرة أحيانا شيئا واحدا، عبر تداخل الطرفين وتفاعلهما وتبادل التأثير والتأثر. ولهذا السبب يلح ميشال لوغرن Michel LU GUERN على ضرورة إقصاء التشبيه من دائرة الشعرية، وفي هذا الصدد يقول: "إن التشبيه في معناه المختزل ليس صورة، لأنه يبقى ضمن تجانس السياق، ولا تقارن من ناحية الكمية، إلا بين وقائع متشابهة [تركتُ الشعرَ يأخذ كلَّ شيءٍ/ فلم أكتب ليكتبني الجمالُ - فلا في السطر قافيتي تسامت/ ولاحزن على وطني يقالُ- وما عندي خيارات لأحيا/ فقرب القبر حيرني السؤالُ- هم الأجداد كانوا في طريقي/ وفي أدهى صروفِ الدهرِ مالوا]. وقصيدة سعاد السامر تنطوي على نفس ملحميّ ودراميّ مع ميل واضح نحو مسرحة القصيدة حيث تتوسّل بالتكنيك الدراميّ (نوعًا ما)، فضلا عن توظيف المونولوج (الحوار الباطني مع الذات الشاعرة) في بناء الصورة الشعرية، وقد استفادت السامر في قصائدها من عملية مزج عناصر المسرحية والقصة القصيرة معًا داخل بنية القصيدة: كالسرد، والحوار، والاستغراق الزماني والمكاني . ويبرز السرد كثيمة أساسية من بين هذه العناصر وهو يعدّ لبنة من لبنات البناء الشعري الحداثوي، حيث استعاره الشعر من الرواية في ظل ما يسمى بتداخل الأجناس الأدبية، وهو عنصر أساسي في قصائد الشاعرة. على نحو ما نقرأه في هذا النموذج القصير، والذي محوره شخصية الإمام عليّ – كرّم الله وجهه- [أما كفاكَ علواً أيها الجبلُ/ والسنديانُ إلى كفيك يبتهلُ- الضوءُ وجهُكَ لاوجه الضياء نرى/ من بحر عينيك نورُ الصبح يشتعل- لنا عليُّ وبيت الفخر يسكنه/ مقامه العلم لا وهمٌ ولا وجلُ- أنتَ الذي ما رأتك العين مقتبلاً/ إلا تمنت متى هذا الفتى يصلُ] ونظراً لما بلغته القصيدة عند الشاعرة سعاد السامر من نفح الأساليب، والتمكن اللغوي وتراص البناء الشعري وسيطرة الفكرة أحياناً على حساب العاطفة، ومحاولة الشاعرة باستمرار أن تعتمد أسلوب التصوير والتخيل، وأن تشحن القصيدة بما تستطيع من طاقة غنائية موسيقية. وهذه السمات المتعددة تُعد سببا كافيا للتوصية بضرورة تناول تجربتها الغنية بحثاً وتحليلاً، وفقاً لمنهج نقدي حديث؛ وفق أشار إليه طلال علي ديوب في كتابه (بنية القصيدة الشعرية عند لسان الدين بن الخطيب). على نحو ما نقرأه في هذا المقطع:[عزيزاً عشت والدنيا سجال/ كآل البيت مكلوماً أبيّا- فيا باب الحوائج عشت حراً/ وكان السجن نوّاراً بهيا- وكان الصبر مفتاح النوايا/ وكنت بوجههم دوماً قويا- على الدنيا بما حملت سلاماً/ سلامٌ من تعففكْ النقيّا - وأنت أبوالسلام بكل فخر/ فريداً عدت للدنيا زكيّا - بلغت مرادك المرجو حتى/ صعدتَ اليوم مختاراً عليّا]. ومن ثَمَّ يمكنك عزيزي القاريء أن تعيد قراءة هذا المقطع شريطة أن ترى بقلبك، وتشاهد ببصيرتك، وتستمع بروحك في عملية استبطان ذاتيّ نسميها باستبدال وظائف الحواس. |
المشـاهدات 26 تاريخ الإضافـة 14/06/2025 رقم المحتوى 63899 |