الخميس 2025/6/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 37.95 مئويـة
نيوز بار
الأزمة الدستورية في المحكمة الاتحادية العليا العراقية: قراءة قانونية في استقالة أعضائها وتداعياتها على النظام القضائي
الأزمة الدستورية في المحكمة الاتحادية العليا العراقية: قراءة قانونية في استقالة أعضائها وتداعياتها على النظام القضائي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. سيف هادي عبدالله جاسم الزويني
النـص :

 

 

 

 

مقدمة

 

تُعد المحكمة الاتحادية العليا في العراق الهيئة القضائية الدستورية الأرفع في النظام القانوني للدولة، إذ تختص حصريًا بتفسير الدستور والفصل في النزاعات بين السلطات، وتحديد مدى دستورية التشريعات. وبهذا الموقع المحوري، فإن استقرار المحكمة واستقلالها يمثلان ضرورة لضمان سيادة القانون وفصل السلطات.في حزيران 2025، شهد العراق حدثًا قضائيًا غير مسبوق تمثل في استقالة جماعية لعدد من أعضاء المحكمة، الأمر الذي أحدث فراغًا دستوريًا واضحًا وأثار تساؤلات جوهرية حول سلامة النظام الدستوري. يبحث هذا المقال في السياق القانوني لهذه الأزمة، ويحلل آثارها، ويقترح حلولًا موضوعية للخروج منها وضمان عدم تكرارها.

 

أولًا: الموقع الدستوري للمحكمة الاتحادية العليا

 

كرّس الدستور العراقي لسنة 2005 في مادته (92) المحكمة الاتحادية العليا بوصفها هيئة قضائية مستقلة ماليًا وإداريًا، لا تخضع لأي سلطة تنفيذية أو قضائية أخرى، وتختص بالفصل في دستورية القوانين، وتفسير نصوص الدستور، والنزاعات الاتحادية، والمصادقة على نتائج الانتخابات. ومن ثم، تُعد المحكمة المرجعية العليا في النظام القانوني، وصمام أمان لمنظومة الفصل بين السلطات.إن أي اضطراب في بنيتها أو تعطيل لمهامها لا يمس المؤسسة القضائية فقط، بل يهدد النظام السياسي برمّته ويقوّض مبادئ الديمقراطية الدستورية.

 

ثانيًا: الإطار القانوني للمحكمة ومكامن القصور

 

تعمل المحكمة الاتحادية حتى الآن بموجب القانون رقم (30) لسنة 2005، وهو قانون مؤقت صدر قبل نفاذ الدستور الحالي. ورغم مرور أكثر من 18 عامًا، لم يصدر البرلمان قانونًا دائمًا للمحكمة وفقًا للمادة (92/ثانيًا) من الدستور.

 

أبرز أوجه القصور في القانون الحالي تتمثل في:

* غياب معايير واضحة وشفافة لاختيار أعضاء المحكمة.

 

* عدم تنظيم الإجراءات المتعلقة بتبديل الأعضاء أو حالات الاستقالة.

 

* عدم كفاية الضمانات لحماية استقلال القضاة داخل المحكمة.

 

كل ذلك يجعل المحكمة عرضة للضغوط، ويُضعف مناعتها المؤسسية تجاه التدخلات السياسية أو الإدارية.

 

ثالثًا: خلفية الأزمة – الاستقالات الجماعية وظروفها

 

في يونيو 2025، قدم تسعة من أعضاء المحكمة الاتحادية العليا – أصلاء واحتياط – استقالاتهم دفعة واحدة، احتجاجًا على ما وصفوه بمخالفات دستورية تتعلق بتدخل في اختصاصات المحكمة، وضغوط سياسية في قضايا شائكة، أبرزها الطعن في اتفاقية خور عبد الله، ومسائل تقاعدية وقانونية حساسة.وقد عكست هذه الخطوة حالة من الاحتقان داخل المؤسسة، وأظهرت فشل الإطار القانوني الحالي في حماية استقلال القضاة وضمان بيئة قضائية آمنة لأداء مهامهم الدستورية.

 

رابعًا: مشروعية الاستقالة في ضوء أحكام القانون والدستور

 

من حيث الأصل، فإن الاستقالة حق شخصي للقاضي، غير أن الوضع يختلف عندما تكون الاستقالة ضمن هيئة دستورية عليا مسؤولة عن التوازن المؤسسي للدولة. فالقاضي في المحكمة الاتحادية لا يُمارس وظيفة فنية فقط، بل وظيفة سيادية.وبالتالي، فإن الاستقالة الجماعية – وإن كانت لا تُخالف نصًا قانونيًا صريحًا – إلا أنها تُعبّر عن خلل هيكلي في النظام القضائي، حيث لا يوجد نصّ يُلزم السلطات بتأمين استمرارية فورية لأداء المحكمة، مما يُدخل البلاد في فراغ دستوري خطير.

 

خامسًا: الآثار القانونية والدستورية للأزمة

 

1- تعطيل الرقابة الدستورية:بفقدان النصاب اللازم لانعقاد المحكمة، تتعطل قدرة الدولة على فحص دستورية القوانين، مما يفتح المجال أمام تمرير تشريعات قد تتعارض مع الدستور. 2- غياب التفسير الدستوري الملزم:المحكمة هي الجهة الوحيدة المخوّلة بتفسير نصوص الدستور، وغيابها يعطل فهم الدستور من جهة مختصة، ويُفسح المجال للتأويلات السياسية المتضاربة.3- تشكيك في شرعية العمليات السياسية:أي انتخابات أو قرارات سيادية كبرى تتطلب مصادقة المحكمة الاتحادية العليا، وغيابها يشكّل فراغًا دستوريًا يفقد النظام السياسي أحد ركائزه.

 

سادسًا: سُبل المعالجة والخروج من الأزمة

 

لا يمكن حلّ هذه الأزمة بشكل مستدام من خلال إجراءات ترقيعية أو بتعيين بدائل للأعضاء فقط، بل ينبغي إعادة بناء المحكمة على أسس تشريعية ودستورية صحيحة. ومن أبرز المقترحات:1- تشريع قانون دائم للمحكمة الاتحادية العليا:وفقًا لنص المادة (92) من الدستور، وبما يضمن وضع ضوابط دقيقة لاختيار الأعضاء، وشروط العضوية، وضمانات الاستقلال.2- تعزيز الحصانة الوظيفية لأعضاء المحكمة:بما يشمل تأكيد استقلالهم التام إداريًا وتنظيميًا، وتحصينهم من أي تأثير مؤسسي، من خلال إنشاء مجلس خاص بالمحكمة يُعنى بشؤونها الإدارية والمالية بشكل مستقل عن باقي الهيئات القضائية، ضمانًا للفصل الكامل بين اختصاصها القضائي وطبيعة العمل القضائي العادي لمجلس القضاء الأعلى.3- وضع آلية دستورية لمعالجة الفراغ المؤسسي:من خلال تنظيم حالات الاستقالة أو الوفاة، وتحديد آلية سريعة لتسمية بدلاء، بما يمنع تعطيل المحكمة لفترة طويلة.

 

سابعًا: الدروس المستخلصة من الأزمة

 

تُظهر هذه الأزمة الحاجة الماسة لإصلاح شامل في البنية الدستورية للمحكمة الاتحادية، وضرورة تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات في التطبيق لا في النص فقط. كما أنها تطرح سؤالًا جوهريًا حول موقع القضاء الدستوري في الدولة العراقية: هل هو مجرد أداة قانونية؟ أم ركيزة سيادية ينبغي تحصينها من كل تأثير؟الإجابة الحقيقية تكمن في العمل الجاد على تحصين المحكمة، لا من الضغوط السياسية فقط، بل أيضًا من الهشاشة القانونية والتنظيمية التي تُعرّضها للخطر.

 

خاتمة

 

أزمة المحكمة الاتحادية العليا في العراق تُعد إنذارًا دستوريًا ينبغي الوقوف عنده بعين الاعتبار، لا بوصفه عارضًا طارئًا، بل مؤشّرًا على هشاشة الإطار القانوني الناظم لأهم مؤسسة دستورية في البلاد. وإذا لم يُبادر المشرّع إلى ملء هذا الفراغ التشريعي وتنظيم المحكمة بما يكفل استقلالها الفعلي، فإن خطر التداخل السياسي والقضائي سيبقى ماثلًا، مهددًا شرعية الدولة نفسها.إن صيانة المحكمة الاتحادية ليست خيارًا سياسيًا، بل التزام دستوري لا يحتمل التأجيل.إن تحصين المحكمة الاتحادية يتطلب إرادة سياسية صادقة، ورؤية قانونية نزيهة، تُدرك أن استقلال القضاء ليس ترفًا مؤسسيًا، بل شرط وجودي للدولة القانونية.

 

المشـاهدات 163   تاريخ الإضافـة 22/06/2025   رقم المحتوى 64139
أضف تقييـم