النـص :
في خضم الموازنة الثلاثية العراقية المثقلة بعجز متراكم ونفقات تشغيلية ضخمة، تبرز المادة 16 كواحدة من أكثر البنود إثارة للجدل، ليس فقط من حيث مضمونها، بل من حيث ما تخفيه من احتمالات مفتوحة على كل التأويلات. إذ تنص هذه المادة على منح وزير المالية صلاحية "إضافة اعتماد مالي" لتسديد أو إطفاء السلف والديون السابقة حتى نهاية عام 2023، شريطة تدقيقها من ديوان الرقابة المالية الاتحادي وموافقة مجلس الوزراء. تبدو العبارة في ظاهرها إجرائية، لكنها في العمق تفتح الباب على مصراعيه لتصفية حسابات مالية تعود إلى سنواتٍ خلت، وربما دون الخضوع الكامل للرقابة أو المحاسبة القضائية والبرلمانية المطلوبة.هذا الإجراء، الذي قد يبدو للبعض محاولة لإغلاق ملف ثقيل ومعقّد، يثير في جوهره إشكالية قانونية عميقة تتعلق بصلاحيات السلطة التنفيذية، ومدى التزامها بنص وروح الدستور. فقد حذّر الخبير القانوني علي التميمي من أن منح وزير المالية صلاحية إطفاء هذه السلف يتعارض مع المادة 27 من الدستور العراقي التي تحظر التصرف غير المشروع بالمال العام. كما أشار إلى أن المادة 16 قد تكون عرضة للطعن أمام المحكمة الاتحادية، نظراً لأنها تمنح السلطة التنفيذية تفويضاً غير مقيّد لتصفية أموال ضخمة دون العودة إلى البرلمان، وهو ما قد يُعد تجاوزاً للمبدأ الرقابي الأساسي في إدارة المال العام.ما يُفاقم من خطورة هذا التوجه، هو عدم الكشف الواضح عن حجم هذه السلف ومصير الأموال التي صُرفت من خلالها في الأعوام الماضية. تشير التقديرات إلى أن حجم هذه الديون والسلف التي يُراد "إطفاؤها" يصل إلى نحو 100 مليار دولار، ذهب جزء كبير منها إلى شركات خاسرة أو مشاريع متلكئة، لم تُنجز ولم تُحاسب، بل اختفت بين طيات الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في مفاصل الدولة. وفي ظل بنية رقابية ضعيفة، تُصبح هذه المادة أداة مثالية لتبييض أخطاء وإخفاقات السنوات الماضية تحت غطاء قانوني هش.الموازنة الثلاثية بحد ذاتها تُعد سابقة جديدة في العراق، حيث تمتد من 2023 إلى 2025، وتمنح الحكومة صلاحيات غير مسبوقة في الاقتراض الداخلي والخارجي تتجاوز 120 تريليون دينار، دون الحاجة إلى تصويت سنوي جديد في البرلمان. هذا النمط من التخطيط المالي طويل الأمد، ورغم ما يُقال عن كفاءته في ضمان الاستقرار، قد يُحوّل عملية الرقابة إلى مجرد إجراء شكلي، خصوصاً حين يُستخدم في تمويل بنود فضفاضة مثل "إطفاء السلف".كل هذه التطورات تأتي في ظل موازنة تقارب الـ197 تريليون دينار، وتخصص أكثر من 60% من إنفاقها للرواتب، أي نحو 90 تريليون دينار. وهي موازنة تعتمد بشكل شبه كلي على إيرادات النفط، بما يجعلها مهددة بالانهيار أمام أي تراجع في أسعار الخام العالمية. ويُحذر خبراء من أن استمرار هذا النمط من التوسع المالي غير المنضبط سيُفضي إلى أزمة سيولة قد تعجز فيها الدولة حتى عن دفع الرواتب، إذا ما انخفض سعر برميل النفط إلى ما دون 60 دولاراً.في ضوء هذه الحقائق، تصبح المادة 16 أكثر من مجرد بند في قانون موازنة، بل نافذة تطل على أزمة أعمق تتعلق بكيفية إدارة المال العام في العراق، وإلى أي مدى تملك مؤسسات الدولة القدرة والإرادة على استعادة الثقة الشعبية من خلال الشفافية والمحاسبة. إطفاء السلف لا يمكن أن يكون غاية بحد ذاته، بل يجب أن يكون نهاية لمسار رقابي صارم، يحدد من استلم، ومن أنفق، ولماذا لم يُنجز، ومن يحاسب.قد تكون هذه المادة فرصة لكشف المستور إن تم التعامل معها بصرامة، لكنها في الوقت ذاته قد تصبح غطاءً لتصفية ملفات الفساد إن تُركت تمرّ بصيغتها الحالية. وهنا تكمن المسؤولية الأكبر على عاتق البرلمان، والقضاء، والرأي العام العراقي، لمنع تمرير تسويات مالية مشبوهة تحت عنوان "الإصلاح المالي".ليس في الأمر مبالغة، فبين كلمة "إطفاء" وسطر في قانون، قد تُدفن عشرات المليارات من الدولارات، وتُطوى ملفات لا تزال تنتظر العدالة.
|