النـص :
لا مراءَ في أن المؤسسات الحكومية في الدولة وُجدت من أجل تقديم أفضل الخدمات للناس لتسهيل الحياة لهم. ولكي تستقيمَ أعمال المؤسسات الحكومية وصولًا لغايتها؛ تم وضع إطار عمل للموظف من قبل المشرّع العراقي في قانون، يشمل أغلب الموظفين في الدولة- مع وجود بعض الاستثناءات- وهو: قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 114 لسنة 1991 المعدّل النافذ.والثابت أن الوظيفة العامة هي: تكليف وطني وخدمة اجتماعية يستهدف القائم بها المصلحة العامة وخدمة المواطنين في ضوء القواعد القانونية النافذة (المادة 3 من القانون أعلاه). ولتقديم الخدمة الاجتماعية بشكل سليم؛ يتوجب على الموظف أن يلتزم بالواجبات وأن يمتنع عن القيام بالمحظورات التي أُلزم بها (المادة 4، 5 من القانون أعلاه). ولكن معلوم أنه بطبيعة الحال أن الإنسان يخطئ ويصيب، والموظف الكَيِّس النَّبِه لا يخطأ ذات الخطأ مرتين. ولا مناص من القول، لاحظنا من خلاصة التجارب في الميدان القانوني أن "الخطأ وارد وتصحيح الخطأ واجب". ويعود ارتكاب الخطأ إلى أسباب كثيرة منها: ضغط العمل، قلة الخبرة الإدارية، اللامبالاة، استغلال حسن نية الموظفين، التغرير بهم، ضغط بعض المديرين على الموظفين في ارتكاب الفعل المخالف للقانون...الخ.وفي حال صدور مخالفة من الموظف عند تقديم الخدمة الاجتماعية في المؤسسة الحكومية، تنهض مسؤوليته القانونية، ويتطلب استجوابه، أو استجواب الموظفين المسؤولين عن التقصير والخطأ الذي نشأ عن أي مسألة تكون ضمن مسؤوليتهم؛ لبيان الأسباب التي نتج عنها ارتكاب هذا الفعل (المادة 7 من القانون أعلاه). وفي حال ثبوت الفعل والتقصير على الموظف؛ فإنه سيعاقب وفق إحدى العقوبات التي نصت عليها (المادة 8 من القانون أعلاه). أما في حالة عدم ثبوت التقصير فإن التحقيق يُغلق بحق الموظف.ومن الضمانات التي وضعها المشرع العراقي للموظف خشية أن يمسه تعسف الإدارة: أن يتم تشكيل لجنة تحقيقية وأن يكون أحد أعضائها حاصلًا على الأقل شهادة البكالوريوس في القانون (المادة 10 من القانون أعلاه).وبناءً على ما تقدم، رأينا في واقع العمل الإداري أن إجراءات التحقيق الإداري، والتي تبدأ عند تشكيل اللجان التحقيقية، أن بعض الموظفين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم عند توجيه التهمة لهم لأسباب مختلفة منها: نقص في الخبرة الإدارية، الخوف من تعسف الادارة،..الخ. وقد يسأل بعض الموظفين أعضاء اللجنة عن مدى إمكانية توكيل محامٍ للدفاع عنه؟ والإجابة قد يشوبها الغموض في بعض الأحيان، أو رفض طلبه في أحيان كثيرة من قبل اللجنة أو الإدارة.وللإجابة على التساؤل أعلاه، بدايةً نذكر أن سبب الغموض في الإجابة على التساؤل أعلاه هو: عدم وجود نص في قانون انضباط موظفي الدولة رقم 114 لسنة 1991 يجيب على هذا التساؤل. وهو ما يمكن للموظف القانوني في اللجنة التحقيقية، أن يتجاوزه وفق قاعدة (المطلق يجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصًا أو دلالة). والنص العام المطلق هو: المبدأ الدستوري في المادة 19/ رابعًا من الدستور العراقي لسنة 2005 والتي نصت على أن: (حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة).فضلًا عن ذلك، نصت المادة 19/ سادسًا/ من الدستور العراقي على أنه "لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية". و"المتهم بريء حتى تثبت إدانته" (المادة 19/ خامسًا من الدستور العراقي) . لذا يتطلب الدقة عند صياغة الأوامر الإدارية، مع مراعاة المبادئ الدستورية أعلاه.وبناءً على ذلك، فإن توكيل محامٍ في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة يعد مبدأً دستوريًا واجب التطبيق. وانعكاسًا لتطبيق المبدأين أعلاه – وهي قاعدة عامة في الإجراءات - وُضعت قاعدة قانونية بذلك في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971؛ تحديدًا في المادة 123/ فقرة ب والتي نصت على أنه (للمتهم الحق في توكيل محامٍ وإذا لم يكن بمقدوره توكيل محامٍ، فعلى المحكمة تأمين محامٍ له دون أن يتحمل نفقات ذلك).ومعلوم أن أغلب الشكاوى التي تقدم إلى القضاء من قبل المؤسسات الحكومية، يطلب القاضي من الأخيرة، إرسال نتيجة التحقيق الإداري في المخالفة الإدارية التي نشأت عنها الجريمة، لكي يتضح لدى القضاء الرؤيا حول الشكوى المقدمة. وبذلك يعد التحقيق الإداري الأساس الذي يستند إليه القضاء في كثير من الأحيان لِبناء إجراءات التحقيق الابتدائي والقضائي عليه.ولتعزيز المبادئ الدستورية والقواعد القانونية أعلاه، ولكثرة التساؤلات والانتهاكات في المؤسسات الحكومية حول (مدى جواز توكيل محامٍ في إجراءات التحقيق) ومن خلال البحث لاحظنا في الأحكام القضائية انعكاسًا للمبادئ الدستورية أعلاه على الواقع، وحسم الخلاف؛ إذ أصدرت المحكمة الإدارية العليا العراقية حكمًا بالعدد 183/ قضاء الموظفين- تمييز/ 2015 بتاريخ 5/1/ 2017 جاء في مضمونه "بجواز توكيل محامٍ في مرحلة التحقيق الإداري". وهذا الحكم ملزم لكافة المؤسسات الحكومية، وكيف لا وهو الذي كفل حماية الحقوق والحريات الأساسية للموظفين، والتي نأمل أن ترى النور على الواقع في جميع المؤسسات.ونخلص من كل ما تقدم، أن الدستور العراقي والقانون قد كفلا للموظف الحكومي ضمانات تحميه من التعسف في حال تعرضه للاستجواب من قبل اللجنة التحقيقية ومنها: توكيل محامٍ للدفاع عنه أثناء التحقيق الإداري لما يمتلك المحامي الماهر من معلومات قانونية تبين ضمانات المتهم في التحقيق والدفاع عنه. ونوصي المشرع العراقي بتشريع قاعدة قانونية في قانون ينص على "حق الموظف بتوكيل محامٍ للدفاع عنه في الإجراءات التحقيقية" وذلك حسمًا للخلاف عند تفسير نصوص القانون وليتوحد التوجه بالتعامل في جميع مؤسسات الدولة كضمانة هامة للموظف.
|