النـص : ليست كل الحروب ما تُرى بالعين المجردة، فثمّة معارك تُخاض في الظل، بأسلحة لا صوت لها، وقنابل تنفجر داخل العقول لا على الأرض . في الصراع الإيراني – الإسرائيلي الذي بلغ ذروة غير مسبوقة، لم تعد السماء وحدها مسرح الاشتباك، بل دخلت دهاليز الأمن ودهشة المعلومة على الخط، لتصبح العملية الاستخباراتية هي اللاعب الحاسم في قلب الصراع .ففي وقتٍ كانت فيه طهران تبني عقيدتها الأمنية على “ الردع من الخارج ” و” الحماية عبر الوكلاء ”، كانت إسرائيل تعمل بصمت على اختراق أعصاب الدولة من الداخل . جواسيس، عملاء نائمون، طائرات درون تُسيّر من الأرض الإيرانية، ومراكز استخبارية تغلغلت حتى داخل الحرس الثوري … كلها عناصر كشفت أن الجدار الحديدي الإيراني لم يُهدم من الخارج، بل تصدّع من الداخل .لم تعد تل أبيب تستهدف مواقع نووية أو منصات إطلاق، بل تستهدف فكرة الدولة المحصّنة نفسها، وتشعل النيران في قلب منظومتها الأمنية والعسكرية، وتربك هندسة الرد . وبذلك، تغيّر وجه الحرب من “ مواجهة بين دولتين ” إلى صراع وجودي بين عقلين خفيين، حيث لا ينتصر الأقوى عدداً وعتاداً، بل الأذكى قدرة على التسلل، وعلى قنص لحظة الانهيار من تحت الرماد .اليوم، بات الاختراق الإسرائيلي للمنظومة الأمنية الإيرانية هو العنوان الخفي لأخطر مراحل الصراع، فالمعركة لم تعد “ من طهران إلى تل أبيب ”، بل من “ عمق القرار الإيراني إلى خارطة النفوذ الإقليمي ”، حيث كل معلومة تُسرّب، وكل عالم يُغتال، وكل منشأة تُصوَّر من الداخل، تغيّر خارطة الشرق الأوسط .هذه ليست حرباً عادية . إنها حرب من الداخل … حرب على جدار الوعي والسيادة والأمن القومي، حيث من يسقط أولاً، هو من لم ينتبه أن الحصار بدأ من خلف أبوابه المغلقة .كيف اخترقت إسرائيل العمق الأمني الإيراني ؟هندسة الانهيار من الداخل … عندما تتحوّل الدولة إلى ساحة عمليات بلا خارطة ولا إنذار لم يكن ما فعلته إسرائيل في الداخل الإيراني مجرد نجاح استخباراتي عابر، بل كان عملية تفكيك استراتيجي طويلة النفس، أعادت تعريف الحرب الحديثة بمعناها الخام : الانتصار بلا معارك، والانهيار بلا إنذار .في الوقت الذي انشغل فيه النظام الإيراني ببناء شبكة نفوذ خارجية تمتد من بغداد إلى صنعاء، من دمشق إلى لبنان، كانت إسرائيل تُعيد رسم حدود الاشتباك من الداخل الإيراني ذاته، وتخوض أعمق عملية تغلغل استخباراتي في تاريخ الصراع الإقليمي المعاصر .ما حدث لم يكن فعلاً تكتيكياً، بل هندسة أمنية معقدة اعتمدت على أربع أدوات استراتيجية متداخلة، عملت بهدوء على تفكيك البنية العصبية للنظام الإيراني دون أن تُحدث ضجيجاً، وبتكلفة أقل من طلقة واحدة :أولاً: بناء الجسور مع “ الخلايا الصامتة ” داخل الدولة نجح الموساد في الوصول إلى بيئات إيرانية نُظر إليها تاريخياً كمغلقة ومُحصّنة، خاصة داخل الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات . لم يكن ذلك عبر الإكراه فقط، بل من خلال بناء سردية معاكسة داخل النظام ذاته : الانقسام السياسي، خيبة الأمل من الداخل، والرغبة في كسر الحلقة الجهنمية للسلطة. وهكذا، لم يعد “ العدو ” يخترق الحدود … بل بات يتحرك من داخل “ البيت الثوري ” نفسه .ثانياً : السيطرة على فضاء الدولة عبر السيادة السيبرانية بمستوى لا يقل عن المعارك الجوية، نفذت إسرائيل هجمات سيبرانية شلّت منظومات القيادة والتحكم، وأخضعت مراكز حساسة للمراقبة والاختراق . تسريبات نطنز، تفجير بارشين، وتعطيل خطوط تخصيب اليورانيوم، كلها كانت نتائج مباشرة لحرب سيبرانية استباقية جعلت من مفهوم السيادة الإيرانية مجرد قشرة رقيقة يمكن اختراقها بزرّ في تل أبيب .ثالثاً : الاغتيال الذكي كسلاح نفسي واستراتيجي اغتيال قادة كبار من الصف الأول، أبرز علماء الذرة، قادة وحدات سرية، مسؤولون عن البرنامج الصاروخي، رجال ظلّ لا يُذكرون في الإعلام … اختفوا أو قُتلوا في ظروف تحمل بصمة واحدة : معرفة داخلية دقيقة، ورغبة في كسر هيبة النظام دون إعلان الحرب . كل عملية اغتيال لم تكن فقط استهدافاً لشخص، بل نسفاً لركنٍ من أركان العقيدة الأمنية الإيرانية .رابعاً : هندسة الفضيحة كجزء من التكتيك لم تعد إسرائيل تكتفي بالضرب، بل تُعلن بعض الضربات عمداً، في توقيت محسوب، لتدمير صورة الدولة الحصينة. تسريبات فيديو من داخل منشآت حساسة، اعترافات عملاء على الإعلام، واختراقات تتسرب “ مصادفة ”… كل ذلك شكّل سلاحاً نفسياً هائلاً يضرب أعمدة الثقة بين القيادة والشارع، وبين النظام ونفسه .حين يتحوّل الجدار إلى سراب … والمعلومة تصبح أقوى من الصاروخ.ما يجري اليوم في العمق الإيراني يتجاوز حدود العمليات الأمنية الكلاسيكية ؛ إنه تفكيك منظّم لأعمدة الردع من الداخل، باستخدام سلاح صامت لكنه قاتل : المعلومة في لحظة القرار .الاختراق الإسرائيلي للأمن الإيراني لم يُصمّم فقط لتصفية العلماء أو تخريب المنشآت، بل لهدم مفهوم الحصانة السيادية من أساسه . وهذا يجعل من تحوّل الجدار، الذي طالما رُوّج له كخط حماية إقليمي، إلى وهم استراتيجي مكشوف .بينما يتبادل الطرفان الصواريخ والتهديدات في العلن، تُحسم المعركة الحقيقية في الخفاء، داخل غرف الاستخبارات، حيث الرصاصة الأولى ليست بندقية، بل معلومة دقيقة، تصل في التوقيت الذي يغيّر المعادلات .لقد دخل الصراع مرحلة يصبح فيها الأمن الداخلي لإيران هو الحلقة الأضعف، والكثير من جدرانها قد لا تسقط بصاروخ، بل بسلسلة متقنة من الاختراقات، تجعل قرار الرد نفسه … قراراً مكشوفاً، محسوباً،مرصوداً، من قبل الخصم .
|