النـص : لا تقاس العظمة بالدماء بل بنقاء القضية، وصفاء المبدأ، وسمو الغاية، وعفاف الدعوة ، عندها تتحول الدماء الى تراث انساني خالد، والتضحية الى بقاء ابدي، وديمومة مطلقة، فلم تكن ثورة الإمام الحسين (ع) مجرّد واقعة عارضة، او حادثة مأساوية، او خدش بسيط في جبين التاريخ، بل كانت زلزالًا أخلاقيا هزّ عروش الظلم، ومنعطف تاريخي أيقظ الضمائر النائمة، وصفحة مؤرخة في سفر الزمن احيت القيم المنسية، وزعزعت العروش الفاسدة، ونزعت الاقنعة البالية، فلم يكن خروج الإمام عليه السلام مجرّد رفضٍ عابر لبيعة سلطان جائر، بل كان رفضاً لكل أشكال الانحطاط والانحراف السياسي، والانهيار القيمي الذي غزا الأمة، فقد أراد الحسين (ع) أن يُعلّم الأمة : أن الموت تحت راية الحقّ خيرٌ من الحياة تحت مظلة الباطل، فقال قولته المشهورة: اني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما ، فهي صرخة و نهضة و ثورة ومدرسة كشف عنها مفجرها في أول بيان من بياناته حين قال: (إني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا ظالما، ولا مفسدا، إنما خرجت لطلب الإصلاح).ان الحركات التي ترفض الفساد وتنادي بالشفافية، هي امتداد طبيعي لفكر الإمام الحسين عليه السلام، فعندما نفضل السلامة على المبدأ، فقد تنازلنا عن إرث الإمام الحسين عليه السلام ، وعندما نسكت عن الظلم ونركن الى الباطل، فقد خذلنا الإمام الحسين، وعندما نكون جزءً من منظومة الفساد نصبح محاربين للإمام الحسين ، فالقيم في مدرسة الحسين لا تُباع، حتى لو كانت الدماء هي الثمن. واقعة الطف قضية متجذّرة في الوعي الإسلامي، اججت الوعي الثوري للأمم المضطهدة الثائرة على الظلم و الفساد، وكلما تقادم الزمن اصبحت اكثر رسوخاً في وجدان الأمّة، لأنها واقعة اجتازت جغرافية المكان والزمان واستمدت عظمتها من نور النبوة وعنفوانها من دماء الشهادة، فأصبحت رمزاً للصراع الدائر بين الخير بكل مضامينه والشر بكل اتجاهاته، ومن هنا لا يمكن ربط النهضة الحسينية بسياقاتها التاريخيَّة وبعدها الزمني واطارها الجغرافي، فهي ثورة إصلاحية حية انبثقت من رحم الامة لتصحح ما اعوج من مسارها، واستمر صداها يتخطى القرون عابراً للآفاق الى ابعد نقطة لامتناهية في المستقبل، كما لا يمكن ربطها بالإسلام حصراً، على الرغم من عدم القدرة على فك ارتباطها عنه، لأنها جاءت حاملة لمبادئه ومترجمة لمعانيه، فهي ثورة إنسانية لكل أبناء البشرية، منبثقة عن الإسلام في كل زمان ومكان، كما لا يمكن حصر عاشوراء جغرافياً بكربلاء على الرغم من قدسية هذه البقعة التي ارتوت من دماء النبوة وكانت منطلقاً ومهداً لانبثاق تلك النهضة التي امتدت بمبادئها الى سائر انحاء العالم، لذلك يقول الآثاري الإنكليزي ـ وليم لوفتس: (لقد قدم الحسين بن علي ابلغ شهادة في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة) لم تكن ثورة الإمام الحسين (ع) مجرد حدثٍ دمويٍّ في صحراء قاحلة، بل كانت هزةً أخلاقية أعادت تشكيل ضمير الأمة، فكلما غابت الشمس على كربلاء، تشرق فيها شمسٌ جديدة تُذكّرنا: بان الحسين فكرةٌ تُبعث كل يوم في نفوس الأحرار ، ودماء النبوة ليست دينًا تاريخيًا نسجله في الذاكرة، بل فاتورة حاضرة ندفعها كل يوم، وهذه الثورة التي بلغت في عقائديتها الذروة العليا من الوعي والعمق اعطت درساً متكاملاً في التضحية ،خلاصته ان المبادئ لاتباع، وان الهوية ليست سلعةً يمكن ان تستورد، وان المسؤولية ليست عواطفَ دامية، بل برنامج عمل واختبار حقيقي لاستحقاقنا في ان نكون في ركب الحسين عليه السلام، فالنهضة الحسينية لم تكن ماضيًا نعيشه، بل مستقبلًا نصنعه نحيي به المشروع الاصلاحي والقلعة الاخلاقية، فالإساءة الاكبر للثورة الحسينية أن نُحوّلها إلى مآتم مجرد، وألسنةً تتأفف من الحاضر، وأيديَ لا تُغيّر المستقبل. الحسين عليه السلام ايقونة الاحرار في العالم، وصرخة الزمان في وجدان الامة ، وعاشوراء نوراً مشعاً اخترق حجب الظلام، الثورة الحسينية إنسانيةٌ في دوافعها وأسبابها ومنطلقاتها وأهدافها، ومضمونها، ومحتواها، ورسالتها، ولكن ما يجب التركيز عليه اليوم ونحن في الألفية الثالثة: هو إبراز الجانب الفكري والفلسفي والتربوي للنهضة الحسينية بما يعزز مكانة الأمة ويدفع بها الى الإمام ، وما احوجنا الى استلهام تلك المعاني الخالدة والمفاهيم الاصلاحية في بناء انفسنا وتشييد دولنا.
|