الأحد 2025/6/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
نيوز بار
الأغنية السياسية مصدراً للمعرفة التاريخية "أوبريت المطرقة" أنموذجاً
الأغنية السياسية مصدراً للمعرفة التاريخية "أوبريت المطرقة" أنموذجاً
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

                       

د. مشتاق عيدان اعبيد

     تُعدّ الأغنية السياسية شكلاً من أشكال التعبير الثقافي الذي يتجاوز البُعد الجمالي والفني ليغدو وثيقة حيّة يمكن اعتمادها مصدراً من مصادر المعرفة التاريخية. وقد أشار الدكتور قاسم عبده قاسم إلى العلاقة الجدلية بين الفن والتاريخ بقوله: "الفن مصدر هام من مصادر المعرفة التاريخية، كما أن التاريخ بأحداثه وظواهره وشخوصه وأبطاله منبع للوحي والإلهام في الفن"، مؤكداً بذلك إمكانية الإفادة من النتاج الفني في تأريخ المجتمعات. فالأغنية، بوصفها شكلاً فنياً، تتفاعل مع الإنسان بوصفه موضوعاً للتاريخ والفن على حدّ سواء، ما يجعل منها وسيلة لفهم الزمن التاريخي من منظور وجداني .

    وعلى الرغم من أن التاريخ، بطبيعته، يربط الأحداث بالأطر الزمانية والمكانية الدقيقة، فإن الفن – وفي مقدمته الأغنية – يتجاوز هذه الحدود لينفتح على التعبير الرمزي والوجداني، دون أن ينفصل تماماً عن السياق الإنساني والاجتماعي الذي نشأ فيه. فالغناء، لا سيّما السياسي منه، لا يُفهم إلا في إطار البيئة التي أنتجته، إذ يقدّم صوراً حيوية عن الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، قد تعجز الوثائق الرسمية عن التعبير عنها بدقّة. وقد أضحى من المسلّم به أن التاريخ لم يعد وقفاً على سرديات الملوك والأباطرة، بل بات يشمل أيضاً حياة الشعوب، وهموم الطبقات المهمّشة، وصور النضال الجماهيري اليومي. ومن هنا، فإن الفن الشعبي، ومنه الأغنية، يوفّر للمؤرّخ مادة ثمينة، مفتوحة على المعاني والمعاناة في آنٍ واحد.

    ان الوثيقة الغنائية، لا سيما السياسية منها، توفّر تفاصيل دقيقة عن النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وغالباً ما يكون مصدرها الأصدق هو ذلك الذي لم يُكتب بقصد أن يكون تاريخاً، بل وُلد من رحم المعاناة اليومية والاشتباك مع الواقع. إن الفنان الملتزم الذي يستلهم التاريخ في إبداعه يتخذ من الحدث السياسي أو الاجتماعي نواةً يُنسج حولها رؤيته الجمالية، وفي هذه الحالة لا يُلغي الفنان الواقع، بل يعيد تأويله في إطار الصدق الفني دون أن يتعارض مع الصدق التاريخي. فكما يشير قاسم عبدة، لا يجوز للفنان أن يمسخ الحقائق أو يشوّه ملامح الحقبة، متذرعاً بالحرية الفنية، لأن ذلك يُعد تزييفاً، لا للتاريخ فحسب، بل للوجدان الجمعي.

     وفي مدينة البصرة، ذات التقاليد الفنية العريقة والموروث السياسي الغني، نشأت الأغنية السياسية بوصفها تعبيراً عن الحركات العمالية والنقابية، والتطلعات اليسارية التي نشطت في النصف الثاني من القرن العشرين. وكانت الأغاني تُقدَّم بأداء يزاوج بين الحسّ العاطفي والانحياز الطبقي الواضح، حتى أصبحت نافذة لفهم المجتمع البصري في تلك المرحلة، لا سيّما في ظل غياب التوثيق الرسمي لتفاصيل الحياة اليومية للطبقات المسحوقة.

      وفي هذا السياق، يُعدّ "أوبريت المطرقة"، الذي قُدِّم في بغداد عام 1970، نموذجاً فريداً على التقاء الفن النضالي بالتاريخ الشفوي. فهذا العمل، الذي كتبه الشاعر علي العضب، ولحّنه الفنان طالب غالي، وأخرجه قصي البصري، يُعدّ وثيقة فنية – سياسية بامتياز، حملت رؤية نقدية للنظام الاجتماعي والسياسي، وشدّدت على معاناة الطبقة العاملة وتضحياتها. وقد أُنتج الأوبريت في ظرف سياسي سمح بهامش محدود من حرية التعبير، انعكس على أشكال التعبير الثقافي آنذاك. وبرزت الأغنية السياسية حينها كأداة اتصال شعبية سريعة التأثير، تنبض بالحياة، ومشحونة بالرمزية، ومُحمَّلة بأصوات الناس، ليمثل تحدياً مباشراً للسلطة آنذاك. ولم يكن غريباً أن تتبع هذا العرض ردود فعل سياسية أدّت إلى إيقاف العمل لاحقاً، نظراً لما أثاره من قلق السلطة تجاه الرسائل الرمزية والاجتماعية التي حملها الأوبريت.

تضمّن الأوبريت مجموعة من الأغاني التي تكشف عن بنية الوعي السياسي لدى الفئات الشعبية، منها أغنية "اتحدوا يا عمال بلادي"، التي تقول:

اتحدوا بوجه اليسفك دمكم

بوجه اللي ينهب خبزتكم

شكَد ضحّيتوا .. وشكَد بالدم تغنيتوا

    وشكَد ماتوا من اخوتكم

    لكن ما ماتوا .. ما ماتوا

  صاروا نبراس الوحدتكم

نسألمن .. نسألمن عنكم

نسأ آذار الخلدتكم

تُعدّ هذه الأغنية نداءً واضحاً للوحدة العمالية في وجه الاستغلال والقمع، وتُبرز كلماتها محطات من النضال الشعبي، موظِّفة مفردات مثل "الدم"، و"الخبز"، و"الوحدة" لترسيخ الجماعة كفاعل تاريخي.

أما أغنية "سولف يا ليل سوالفنه"، فتُمثّل نموذجاً للذاكرة الجمعية التي تحفظ شهادات العذابات والأثمان الباهظة التي دفعتها الطبقة العاملة:

عطشت كَاعي، عطشت كل سجة من ادروبي

عطشت للدم، وتروّت من دم الضحوا

شكَد الضحّوا، شكد تعذّبوا، شكد انسجنوا، شكد الماتوا

كذلك تكشف أغنية "عمال واحنه تعابة" عن البنية الاقتصادية التي تقوم على استغلال العامل:

        كل شهري اخذ مية

بالشغل ما نتوانه ... حط همتك ويانه

لابد عملنه نصونه .. طيبين وتعرفونه

نشتغل ونظلمنا .. من الصبح للعصرية

وتوظّف أغنية "يا طير يا عالي" الطائر رمزاً للحرية والأمل، حاملاً رسالة تضامن من الجنوب إلى الشمال، من العامل إلى الفلاح، ومن الحلم إلى الواقع:

       مر بجنوبي، مر بشمالي

       مر عالعامل، عالتعبان

ياطير غرد بالافراح       للعامل وللفلاح

لليكدح بالليل نهار       يرجع بجف خالي

           يا طير يا عالي

لقد عبّر الفنان طالب غالي، وهو أحد صنّاع هذا العمل، عن تلك المرحلة قائلاً: "كنتُ واحداً من فنانين كُثر كان لهم دور مؤثر في تأسيس الأغنية السياسية والعمل على نشرها". ويؤكد في موضع آخر أن "أوبريت المطرقة" تناول النضال الطبقي وهموم العامل الفقير، وهو ما يعكس إدراكه لدور الفنان كصانع وعي، لا مجرّد مؤدٍّ.

     وقد لخّص الشاعر سعدي يوسف هذه الوظيفة بدقّة حين قال: "أعتقد أن مهمة الفنان أن يطلق البوق عالياً ويدقّ الصنج عالياً لينبّه الغافلين لما يحيط بهم من خطر". إن هذه المقولة تختصر الدور الجوهري للأغنية السياسية: ليس فقط في رصد الواقع، بل في تحريضه وتحريكه أيضاً.

    وهكذا، شكّل أوبريت "المطرقة" تجربة متكاملة في الوعي الفني والاحتجاج السياسي، التقت فيها عناصر النص الشعري واللحن والأداء المسرحي لتقديم سيرة الكادحين بوصفها نواةً للذاكرة التاريخية العراقية. وقد تجلى دور الشاعر علي العضب في تحويل اللغة الشعبية إلى وعاءٍ للوعي الطبقي، حيث صاغ مفرداته من المعجم اليومي للشارع العمالي، مانحاً القصيدة طاقة تعبيرية شديدة الصلة بالواقع. أما الفنان طالب غالي، فقد أضفى على النصوص لحناً يتراوح بين الشجن والتحريض، موظفاً أسلوبه في التلحين كوسيلة لإيصال الرسالة السياسية دون أن يتخلى عن البُعد الجمالي.

    ومن هنا، تتضح أهمية هذا الأوبريت ليس بوصفه تجربة فنية فحسب، بل كوثيقة شفاهية تندرج ضمن ما يسميه المؤرخون بـ"التاريخ من الأسفل"، أي ذلك التاريخ الذي يُكتب من خلال أصوات المهمشين لا النخب وحدها. وهذا ما يمنح الأغنية السياسية، كما تجلت في "المطرقة"، مشروعيتها كمصدر من مصادر المعرفة التاريخية البديلة.

المشـاهدات 36   تاريخ الإضافـة 29/06/2025   رقم المحتوى 64357
أضف تقييـم