
![]() |
الذاكرة وسحر (النوستالوجيا) في رواية (رأس القرية) |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : د. سمير الخليل انطلاقاً من سيميائية العنوان تحيلنا رواية (رأس القرية) للروائي (أحمد القيسي) إلى هيمنة هالة المكان ونوستالوجيا الماضي، من خلال وضع المتلقي إزاء المفارقة التي عبّر عنها الحدث الاستهلالي والمركزي المتمثل بمعاناة الشخصيّة المحورية في الرواية أو الشخصيّة الرئيسة (حافظ)، وشعوره السلبي والممض مع ذاكرته التي تحوّلت إلى بؤرة للإحساس بالوجع والهيمنة المرتبطة بالواقع الشخصيّ الفادح بالألم، مما جعل حالة الصراع السايكولوجي داخل الشخصيّة، وقد استحال إلى صراع حاد بين الذات والذاكرة، وبما يوحي بنوع من الأنسنة والانشطار الذاتي داخل الشخصيّة. إنّ الفضاء الذي استهل به الروائي عالم الشخصيّة تأطّر باشتغال سايكولوجي محض حين يرصد الواقع بل أبعاده الاجتماعية والسايكولوجية والسياسية والعاطفية، لأنّ الذاكرة هي البؤرة التي تشتبك وتتصارع بها هذه الأبعاد المتعدّدة. وتستفحل أزمة (حافظ) مع مكابدة وعناء الذاكرة التي تضغط على ذهنه ووجدانه وتحيله دوماً إلى مناجاة الماضي البعيد بكل تداعياته وشخوصه، مما يؤدي إلى هيمنة النزعة (النوستالوجية)، على الشخصيّة إذ تتحوّل الذاكرة بكل هيمنتها وتدفقها إلى وسيلة لسحب الشخصيّة إلى ماضيها، وإلى أزقّة بغداد وحواريها الشعبية القديمة، وإلى ثلة الأصدقاء المقرّبين منه (حسن) و(باسم) و(كمال)، ويتضمن هذا الالتفات أو النكوص الماضوي كلّ الأحداث والمنعطفات في حياة (حافظ) بوصفه الشخصيّة المركزية التي تدور حولها الأحداث، وتدور حولها شخصيّات الرواية وعقدتها وحبكاتها الثانوية. فالرواية تتّسم بالسعة والتفاصيل المكانية القديمة والحديثة، وإنّها تجسّد مسافة زمنيّة تمتد لأكثر من نصف قرن، وخلالها يتم التطرّق عبر منظور الذاكرة الى الأحداث والمفارقات والشخصيّات على المستوى السياسي والاجتماعي والوجداني، مما جعل الرواية مساحة أو فضاء بانورامياً لمتابعة ثنائية التراتب السردي ومساراته بين الحدث الماضي والحدث العام بين اليومي والتاريخي.. وعلى وفق هذا المسار فإن الكاتب يرتكز في بنائه السردي على تقنيّة الاسترجاع أو (الفلاش باك) لاستعادة الماضي بكلّ تفاصيله وتداعياته ودلالاته، وتمثل شخصيّة الطبيبة النفسية شخصيّة موازية لشخصيّة (حافظ) بوصفها الملجأ أو الملاذ للتخلّص من اشباح وكوابيس الذاكرة، بعد أن اضطّر (حافظ) للبحث عن الحلّ أو ايجاد العلاج للتخلّص من (فوبيا) التذكّر وهيمنة النوستالوجيا إلى الماضي السحيق بكل مراراته، ومباهجه وأزماته وهو يستعيد الشخصيّات الاجتماعية الغرائبية، والأحداث السياسية والانقلابات وصور الاستبداد والفقر وأزمات الإنسان المتعدّدة، وقد برز دور الطبيبة لتخليص (حافظ) من فوبيا الذاكرة وهيمنة الماضي السحيق إذ تتحوّل علاقته معها إلى جلسات طبيّة بغية العلاج وتحريره من هذه الأزمة السايكولوجية الحادة، "وبعد فترة غير طويلة تم الاتصال بحافظ لمراجعة المستشفى في الزمان والمكان ليجد الطبيبة التي استقبلته ولتطمئنه بميسور الحالة، فما كان عليه إلاّ أن يكون واثقاً من امكانية الوصول الى نتائج مرضية تماماً عبر جلسات طبية ستحدّد وفقاً لجدول زمني، ومن هنا بدأت المباشرة بجلسات الاسترخاء والتفاصيل المسهبة الشفافة من حياته وأنْ لا يغادر أو يهمل صغيره أو كبيره من تلك الذكريات العالقة بذاكرته، وتلك التي تقضّ مضجعه ليبدأ بسرد حكاياته عن حياته وعما أحاط بها من حوله في زمانها ومكانها... مثل كلّ صباح تدب الحركة في أطراف بغداد، وازقتها، والمقاهي والدكاكين والأسواق فما بين مبكر لعمله أو مسرع لشراء فطوره مع صرير وفرقعة (كبنكات) الدكاكين وأزيز أبوابها الخشبية..." (الرواية: 10)، وتتحوّل الرواية إلى فضاء لثنائية (حافظ والطبيبة) النفسية، وتمثّل الذاكرة العنصر أو الدالّة المشتركة بينهما، وذلك بحثاً عن العلاج والتحرّر من نزعة التذكّر واجترار الماضي الذي تحوّل إلى حالة مرضيّة مؤذية، وتجد الطبيبة نفسها إزاء مفارقة أو أزمة انسانية لابدّ أن تتصدى لها وتخلص مريضها من (فوبيا) ووساوس التفكير القهري، وعدم التلّبس بالماضي لكنّها تستخدم وسيلة علاجيّة ونفسيّة لتخليص الشخصية من أعراض المرض المرتبط بوجع وهيمنة الذاكرة، بأن تجعله يتدفّق ويفرط في سرد الماضي وحكاياته ومنعطفاته كوسيلة لتطهير الذات، فالبوح النفسي وسيلة من وسائل التحرّر من عبء المعاناة والمكابدة، وذلك يُعدّ نوعاً من التفريغ أو التنفيس وصولاً إلى ادراك اللّحظة الراهنة، ورسوخ الإدراك بماهيّة الماضي الذي اندثر، ولا يعود، وما على الإنسان سوى العيش أو الاستغراق في الراهن، ولحظة الحاضر، وتوظيف الماضي بكلّ تداعياته لجعل الحاضر متدفقاً ومستقرّاً، قائماً على حقيقة الديمومة واستمرار الحياة التي تمثّل بطبيعتها مراحل متعدّدة متضادّة ومتناسلة، وتسعى الطبيبة إلى رسوخ هذا الادراك والنظر إلى الماضي بوصفه طاقة وليس نكوصاً أو مجموعة كوابيس، وهذا هو الحل للاستمرار بالحياة، وعدم التقوقع على الماضي واجتراره. وعلى وفق هذه الاشتغالات تتحوّل الرواية من حكاية أو لقاء بين الشخصيّتين (حافظ والطبيبة) إلى عالم متدفّق للأحداث والمفارقات والحكايات المتنوّعة وإلى التعمق في الأزقّة والحارات البغدادية القديمة، وإلى رصد لطبيعة الحياة والصراعات والعادات والطقوس الاجتماعية، ولا تخلو الرواية من البعد التاريخي والتوثيقي والوصفي، وتتحوّل الحكاية إلى المفارقة والصراع مع الذاكرة عبر مساحة أو فضاء لطرح الأسئلة والتأملاّت الوجودية وإلى استنطاق الماضي، وتفحص الأحداث لاسيما الأحداث الفادحة المتمثلّة بانقلاب 8 شباط 1963، وما حدث به من توحش وتعذيب وقتل وانتشار للعنف والتصفيات الجسدية، والصراع الآيديولوجي بين الشيوعيين والقوميين وتحول الواقع إلى ساحة أو معركة بين هذه الأطراف، ثم جاءت بعدها أحداث تشرين من عام 1963 إذ تفرد الحاكم الجديد المتمثّل بعبد السلام عارف وتخلّصه من حلفائه البعثيين الذين عاثوا فساداً بالسلطة وحده. ورصدت الرواية الواقع السياسي بعد سقوط طائرته في البصرة وصولاً إلى انقلاب دموي آخر هو انقلاب (17 تموز عام 1968) إذ تحوّلت البلاد إلى ثكنة عسكرية وساحة لحروب عبثية، وإلى واقع سياسي مضطرب ممّا أدّى إلى خراب شامل، وضياع تاريخي اتسّم بالانكسار والنكوص والحروب والحصار ومن ثمة إلى معاناة الناس، وموت الحياة بكلّ صورها، "فيما كان الراديو يبث برامجه الاعتيادية صبيحة يوم الجمعة من شهر رمضان الرابع عشر منه الذي وافق تاريخ الثامن من شباط عام 1963، فتوقف بث الراديو فجأة دون معرفة أسبابه، وبعد دقائق بدأنا نسمع المانشيتات العسكرية تلاها نشيد الثورة العربية (الله أكبر) ما انبأ بحادث جلل، وبدأ الناس يتساءلون ويتهامسون ويتحدّثون، دقائق أخرى ليبث اعلان الانقلاب العسكري، والإطاحة بحكم (الزعيم)، خبر صعق عقول وقلوب الكثيرين ممّن أحبّوا الزعيم وجلّهم من الفقراء، وخرج الناس من هنا وهناك، في غضون الساعة بعد سماع الخبر تجمهر الكثير من الناس في الساحة التي تقع امام سينما الفردوس بشارع الكفاح مطلقين الهتافات المدويّة "ماكو مؤامرة تصير عين الشعب مفتوحة" (الرواية: 54- 55). ويستمر السرد الثنائي بين أحداث اليومي، وأحداث التاريخ الفاصلة لاسيما وأن الرواية تتصدّى لمرحلة الأزمات والانقلابات التي حولت الواقع إلى خراب، وصراع واستبداد، وإلى تدمير الذات والموضوع والحاضر والمستقبل على وفق نزعة آيديولوجية وسلطويّة تتّسم بالعنف والفكر الاقصائي والعدميّة السياسيّة لغياب الهدف والغاية التي تبني الحياة والواقع لا أن تدمرّه وتحيله إلى اطلال وأشلاء وذاكرة جريحة. ونلحظ من الظواهر الفنية في الرواية أن الكاتب قسّم فصولها على وفق استخدام العناوين الفرعية بغية التساوق بين الأحداث، وجعل لكل فصل مساحة من تطور الأحداث وتقديم الشخصيّات والثيمات المتنوّعة، ولكي يرصد هذه الانتقالات عبر التتابع التاريخي لكنه لم يلجأ إلى البناء الخطّي والتوثيقي المحض، فكان يختار بعض الأحداث الفاصلة ليخلق خطّاً متوازياً على مستوى السرد بين التاريخي واليومي، وكذلك المزاوجة بين توظيف السيرة الذاتية للكاتب وبين المتخيّل السردي، ولعلّ الشخصيّة المحوريّة (حافظ) هو المؤلف نفسه مع متخيل سردي فني. وتنوّعت أنماط الأمكنة في الفضاء السردي فهناك أمكنة مفتوحة ومغلقة أو أليفة ومعادية مما يجعل المكان في الرواية يحمل الكثير من الدلالات والأنساق المضمرة، فهناك المقهى والسجن والبيوت الضيقة، وهناك المعامل وأماكن الكدح، وهناك المبغى وبيوت اللّذة وسينما الفردوس، فالكاتب يقدّم بانوراما مكانية لتعمّق المعنى المضمر، ويخلق تضادّاً قصدياً بين دلالة كل مكان، "إذا ما رأيت مقهى (أبو سمير) خالية من الزبائن مساء يوم ما، فاعلم أن اليوم اثنين وهو موعد تبديل الفلمين الأسبوعيين في سينما الفردوس القريبة من المحلّة، وقد اعتاد الشباب، وأغلب كبار السن الذهاب إلى هذه السينما لمشاهدة الفلمين الجديدين الأجنبي والعربي، وغالباً ما يكون العربي من أفلام فريد الأطرش، أو عبد الحليم حافظ أو اسماعيل ياسين أو غيرهم، ببطاقة دخول سعرها أربعون فلساً، وللعسكريين بخمسة وعشرين فلساً، وبينهم من يرتدي ملابس أخيه العسكرية ليحظى بامتياز فرق السعر، ولأن الموقع الأرخص كان واسعاً فقد اعتاد رواد المحلّة التجمع الدائم في ركن معين وكأنه مملوك لهم، وهناك أركان أخرى لرواد المحلاّت الأخرى مثل محلة (عكد الأكراد) أو (الخصارجة) أو (بني سعيد)، وكأنّ هناك معاهدة غير مكتوبة في تحديد الأماكن يحترمها الجميع..." (الرواية: 31). بهذه البانورامية – السردية يرصد الكاتب الحياة في الخمسينات والستينات وطقوس الناس، وطبائع وعادات الأجيال التي عاشت في هذه الحقبة الزمنية عبر ذاكرة خصبة، ولعلّ هذا التوّجه كان العامل المؤثر في السرد لتقديم عوالم من التوثيق والمقاربة التاريخية، ونجد دلالة رمزية في الرواية تمثلّها مشاهد اصطحاب الطبيبة النفسية من قبل (حافظ) لزيارة رؤية المحلاّت الشعبية والشوارع والأزقة البغدادية القديمة والتعمق بها، لكي يستكمل لها حكاياته وتاريخه وسيرته، والأجواء التي عاش بها وترّبى في كنفها، لتكون جزءاً من الكشف والتجسيد، والمزج بين الذاتي والموضوعي، وتأثير تلك البيئة الآسرة التي تشكّلت منها ملامح وخصائص شخصيته، وتحولت تلك الأجواء إلى عامل جذب له، عن طريق الذاكرة المفعمة بهذا الماضي الساحر الذي لا يستطيع التحرّر من جماله وتفصيلاته وسحره، على الرغم من أنه لا يخلو من محن ونكبات وأزمات شخصيّة، وأزمات واحتدامات سياسيّة واجتماعيّة وسايكولوجيّة. وظّف الكاتب (أحمد القيسي) الزمن على وفق تأطير سايكولوجي بتدفّق ذاتي بعيداً عن طبيعة الزمن الخارجي أو الفيزيائي إذ السرد الزمني سرداً سايكولوجياً لاسيما وإنّ البطل وجد في العيادة النفسيّة وشخصيّة الطبيبة هما المنقذ له، من (فوبيا) ومعاناة الذاكرة التي تمثّل في حقيقتها إحالة أو ترميزاً دالاً على رفض الحاضر والراهن والحنين (النوستالوجي) الذي يمثّل التوق إلى الفردوس المقلوب، ويصبح الحلم كامناً في الماضي السحيق لتعميق المعنى لما لاقاه (حافظ) من عذاب وشظف العيش، وتنقلّه بين أكثر من مهنة، وعمل لاسيما بعد موت الأب الذي زلزل الأسرة بكلّ أفرادها ووجد نفسه ازاء مسؤولية فادحة من أجل تحقيق لقمة العيش والتمسّك بالبقاء والحياة، "وقد وجد من يهتم بمشكلته واعطاء الأمل في التخلص من آلامه أو في الأقل التخفّف منها، غير أن حافظاً بذكائه كان يدرك بانّه يراوغ في فهم أحاسيسه بتجنبه وضع الإصبع على حقيقة ذلك الإنشداد، إنّها الطبيبة الطيبة الأنثى التي زرعت عنده الأمل في تغيير مجرى حياته، لكنّه يخشى أن ينتهي به المطاف إلى خيبة أمل جديدة يضفيها إلى مصاف خيباته الكثيرة، غير أنَّه قرّر الاستمرار والسير إلى نهاية الطريق، فإنه على ما يبدو قد دخل في صراع مع اليأس، إنّه صراع البقاء والمواجهة، ذلك اليأس الذي التهم طموحاته وقطع شريان آماله منذ زمن طويل. لقد ارتسمت في قلبه الواجف تلك الذكريات المشؤومة على مرّ السنين التي كادت أن تهدّم جدران الأمل، انهمرت عليه الأفكار وتناثرت في حقائب الذاكرة مبعثرة الأجزاء في بحر معاناته (الرواية: 46). ومن الظواهر الفنيّة الأخرى والمتعدّدة أن أحمد القيسي لجأ إلى ما يمكن أن نسميّه بأسلوب التنوّع إذ ترك البعد الأحادي في السرد أو المضامين أو العوالم التي رصدها، وعبّر عن مكنوناتها ومضمراتها ممّا أدى إلى تشكيل جمالية التوليف أو المزاوجة بين التناغم والتضاد، والماضي والحاضر، والكابوس والحلم، والعقل والعاطفة، والذات والآخر، والحاضر والتاريخ، وجعل من المتلّقي ينبهر ويتابع هذه الأجواء المتنوعة والمتضادّة التي تحمل دلالاتها الوجودية والنفسيّة والاجتماعية. ولم تكن الرواية تدعو إلى تمجيد الماضي وتقديسه بل إنَّ رمزية اللقاء بين (حافظ) و(الطبيبة) النفسية قلب المعادلة وجعل من التوق إلى المستقبل باعثاً على التوق والتناغم والاستغراق في الحاضر، ولحظة التجلّي الراهنة، وتحولت العلاقة بينهما إلى أمّل وتوّجه وتناغم، وجزء من اكتمال جمالي واحالي بين الماضي والحاضر وكلاهما اكتسى بالسحر والجمال، وتعبر الطبيبة عن هذا المضمون بقولها: "أرى أنْ نضيف القادم الجميل إلى تلك الذاكرة لنثريها بالجديد وقد رأيت أن القدر قد ساق كلينا إلى ما نحن فيه الآن فخلال جلساتنا عرفت عنك ما هو خاف كمثل ما هو ظاهر، ولأني أعيش نفس الآلام التي تعانيها، وفكرت فيما سأكون لو فارقتني والدتي المسنّة ومشاعر الوحدة؟". (الرواية: 163). بهذه النهاية يضع الكاتب جوهر وعمق روايته الإنسانية في الدعوة إلى الأمل والتناغم ولكل مرحلة جمالها وصولتها وظروفها. |
المشـاهدات 25 تاريخ الإضافـة 26/07/2025 رقم المحتوى 65145 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |