((على رصيف ميناء الفاو هطلت الذكريات))

لم تكن صدفةً ، تلك اللحظة التي وقفتُ فيها متأملاً الانجازات الكبيرة التي منحتني غبطةً ونشوة فرح لا مثيل لها ،وأنا أشاهد ما يجري من أعمال تشييد وانجاز رائع لميناء سكن ذاكرتنا ، نحن الذين أبصرنا النور قبالة الشطِّ وتشنّفت أسماعنا بصفّارات المراكب صباحاً ومساءً ، حيث أخذتني الهواجس والذكريات إلى أيام طفولتي عندما أخذني أبي عامل الميناء معه إلى الساحبة دجلة التي كان يعمل ضمن طاقمها آنذاك وتحديداً عام 1968 لأستمع وأشاهد في تلفزيونها ولأول مرّة المطرب فؤاد سالم وهو يغني ( يسوار الذهب لا تعذّب المعصم ، معصمها رقيق وخاف يتألم)، وأقف بعد ذلك في مقدمتها انظر إلى الميناء،الذي شيّد في أواخر عشرينات القرن المنصرم،ليكون نافذة البصرة والعراق المطلّة على العالم،وتبدأ المدينة الصغيرة ــ الفاو ــ بالاتساع والعمران حتى تغدو من المدن المهمّة عربياً وعالمياً ، كونها الميناء الذي سيفتح أبوابه لكل أنواع التجارة البحرية والسياحة وغيرها قبل أن يتم انجاز ميناء المعقل بالكامل !!

حينما أنشىء ميناء الفاو ، تم بناء الحي السكني للطاقم الإداري والفنّي الذي يؤدي خدمات مشروع حفر سد الفاو في ذلك الوقت وكانوا من الانكليز وغيرهم ، حيث أطلق عليه تسمية ( الكمب )وتعني المخيّم وقد حرّفها أبناء الفاو بـ( الكم )، أقيم هذا الكمب على ضفاف شط العرب بالقرب من الأرصفة المخصصة لرسو البواخر،وأقيمت في الجزء الشمالي منه دور الموظفين والعمال العراقيين،وكانت جميع شوارع الكمب والحدائق والبيوت على الطراز الغربي ( الانكليزي )،كما تم بناء مستشفى كبير لتقديم الخدمات الطبيّة لجميع أبناء الفاو وكانت تسمى ( مستشفى الميناء )، تتوسط الكمب دائرة الموانئ الرئيسية وبجانبها حديقة كبيرة تتوسطها نافورة بنيت عام 1959 ، وعند إنشاء الميناء وملحقاتها آنذاك تم إنشاء دائرة الإطفاء لتكون أول مدينة ــ الفاو ــ يبنى فيها أول مركز إطفاء ، يضم الكمب بالإضافة الى الدوائر الحكومية ملعباً للتنس وآخر للطائرة ومسبح بجانب الملعبين ثم نادٍ للسينما ( صيفي وشتوي )كان يعرض أفلاماً أجنبية مرتين في الأسبوع قبل وصول الأفلام العربية، كما تستخدم لعرض الأفلام الصحية والوثائقية لتعليم الناس الوقاية من الأمراض وغيرها !!

كان يضم الميناء منصّات لرسو البواخر ومعمل تصليح السفن ودوائر فنية وإدارية إضافة إلى مخازن للمواد الاحتياطية ومحطّة لا سلكي عالمية تعمل على تأمين دخول وخروج البواخر من والى الفاو والمعقل والمحمرة وعبدان وغيرها . كذلك تم تشييد معامل للغاز وثلج الموانئ ( مربع الشكل ) ورحبة لسيارات نقل العمال والموظفين ،ومحطّة توليد الطاقة الكهربائية ( باور هوس )وأخرى للماء العذب !!

صوَرٌ وذكريات مرّت لحظتها في خاطري لميناء كان عامراً بالخير قبل اندلاع حرب الثمانينات وتكون المدينة مسرحاً للمعارك فيتدمّر الميناء والمدينة بالكامل وينزح عنها اهلها حاملين معهم ذكرياتهم وعشقهم للأرض والميناء، ليغدو شريطاً سينمائياً يسكن ذاكرة أبناء الفاو، اغرورقت عيناي بالدموع بين الحزن والفرح وأنا أشاهد العمل جارٍ على قدمٍ وساق لإعادة الحياة للميناء وبصورة اكبر وأفضل وبرؤية عصرية متطوّرة جداً ، فأقول لنفسي :ــ ما تزال النفوس عامرة بالخير والمحبّة وهي تشرع في العمل لتشييد ميناء الفاو الكبير بانجازاته العملاقة الرائعة هذه وترسم لوحة فرح وولادة جديدة لميناء عمره قرنٌ من الزمان، فكيف بنا الآن ونحن نعيش ازمة ضياع ميناء اخر ،،الا وهو خور عبدالله؟؟!، لله درّك ياعراق !!