
![]() |
قراءة تحليلية في استبعاد البعثيين من السباق الانتخابي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : منذ سقوط نظام البعث الصدامي عام 2003، شكّل ملف البعثيين وأزلام النظام البائد أحد أبرز القضايا الجدلية في العراق الجديد، ليس فقط على مستوى العدالة الانتقالية، بل أيضاً على مستوى الصراع على الهوية السياسية وإدارة الذاكرة الجمعية. إن قرارات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الأخيرة باستبعاد مرشحين لهم ارتباطات بحزب البعث أو الأجهزة الأمنية السابقة، تمثل في الحقيقة أكثر من مجرد إجراء إداري، بل هي خطوة سياسية وأمنية استراتيجية تهدف إلى حماية النظام السياسي من أي اختراق قادم يهدد استقرار التجربة العراقية برمتها.
أولاً: صراع الهوية وذاكرة الدم
يستند النظام السياسي العراقي بعد 2003 إلى دستور وضع خطاً فاصلاً مع الماضي البعثي، ليس فقط باعتباره تجربة سياسية فاشلة، بل بوصفه نظاماً دكتاتورياً دومياً مارس القمع والابادة الجماعية ضد مكونات الشعب كافة: الكردية، والشيعية، والسنية المعارضين، والتركمان، والمسيحيين، والإيزيديين. لذا فإن أي محاولة لإعادة البعثيين إلى قلب العملية السياسية، تمثل عملياً تشويهاً لهوية العراق الجديد، وإسقاطاً لذاكرة جماعية مليئة بالدماء.وهنا يكمن البعد الأخطر: إن التساهل مع البعثيين لا يعني فقط السماح لهم بالترشح، بل يعني فتح الباب أمام إعادة إنتاج خطاب الإقصاء والطغيان، وهو ما يتعارض مع روح التعددية والديمقراطية التي يسعى العراقيون لترسيخها رغم العثرات.
ثانياً: التداعيات الإقليمية وإعادة تدوير البعث
لا يمكن فصل هذه المسألة عن الصراع الإقليمي. فبعض الدول المجاورة للعراق تنظر إلى إعادة البعث كأداة لإضعاف النظام السياسي الجديد الذي يُحسب على محور المقاومة أو على الأقل يخرج من تحت الهيمنة الكاملة لتلك الدول.إن تسلل بعثيين إلى البرلمان أو الحكومة يمكن أن يوفّر منصة سياسية لإعادة تدوير المشروع البعثي برعاية إقليمية، بما يمكّن تلك القوى من امتلاك أدوات داخلية لتعطيل الدولة العراقية، وخلق نقطة ضغط على الحشد الشعبي، وربما الدفع نحو تفكيكه كجزء من إعادة التوازن الإقليمي في المنطقة.ومن هنا، يصبح استبعاد البعثيين رسالة مزدوجة: للداخل العراقي بأن الذاكرة الوطنية محمية، وللإقليم بأن العراق لن يسمح بأن يكون البعث أداة لإعادة رسم خرائط النفوذ.
ثالثاً: الموقف الداخلي وصراع القوى السياسية
الموقف من هيئة المساءلة والعدالة لم يكن يوماً خلافاً تقنياً على آلية قانونية أو نصوص إجرائية، بل ظلّ في عمقه مرآةً لصراع أوسع بين هويتين متناقضتين: هوية العراق الجديد الذي نشأ بعد 2003، وهوية العراق البعثي الذي انهار مع سقوط نظام صدام حسين.فالانقسام السياسي حولها يكشف خطوط التصدّع داخل البنية العراقية: فالقوى السنية – أو شريحة منها على الأقل – ترى أن قوانين الاجتثاث تحولت من أداة لتحقيق العدالة إلى وسيلة للإقصاء السياسي، وبدلاً من أن تطوي صفحة الماضي بإنصاف، أصبحت في نظرها سيفاً مُسلطاً في المنافسة الانتخابية. في المقابل، تقف القوى الشيعية، ولا سيما تلك التي دفعت أثماناً باهظة تحت مقاصل البعث وسجونه وإباداته، عند خط أحمر واضح: لا تساهل مع أزلام النظام السابق. بالنسبة لها، أي دعوة لتخفيف أو تعطيل المساءلة إنما هي طعنة في ذاكرة الضحايا، وخيانة للتضحيات التي صنعت النظام السياسي الحالي. أما الكرد، فهم يدخلون إلى هذا الجدل من بوابة تجربتهم الخاصة مع الأنفال وحلبجة، حيث أُبيدت مدن وقرى بأكملها بقرارات بعثية. لذا فإن الموقف الكردي من المساءلة ليس خياراً سياسياً بقدر ما هو انعكاس لذاكرة جماعية دامية لا يمكن محوها أو المساومة عليها. وعليه، فإن ما يبدو في الواجهة سجالاً قانونياً حول "جدوى هيئة المساءلة"، هو في الجوهر اشتباك حول هوية الدولة العراقية ومسارها التاريخي: هل هي دولة تتأسس على القطيعة مع البعث كعقيدة وسلوك وممارسة؟ أم أنها قابلة لأن تُستدرج مجدداً إلى إعادة تأهيله بوسائل سياسية وانتخابية؟ بهذا المعنى، يصبح النقاش حول المساءلة والعدالة ليس مجرد فصل من فصول الانتخابات المقبلة، بل حلقة مركزية في معركة تثبيت هوية العراق بين ماضٍ دموي يريد أن يطل برأسه، وحاضر يحاول أن يؤسس لمستقبل مختلف.
رابعاً: البعث وتجارب الأحزاب المحظورة عالمياً
من المفيد التذكير أن العراق ليس حالة استثنائية في استبعاد أحزاب بعينها لأسباب تتعلق بجرائم ضد الإنسانية: * ألمانيا لا تزال تحظر الحزب النازي وتحاكم أي محاولة لإعادة إنتاج رموزه أو خطابه، رغم مرور أكثر من 80 عاماً على سقوطه. * إيطاليا جرّمت الفاشية وأغلقت أي مساحة لعودتها، واعتبرت تمجيد موسوليني جريمة. * اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مُنعت الأحزاب والعقائد العسكرية التي قادت البلاد إلى الكارثة. * في أوروبا الشرقية، خصوصاً بولندا وجمهوريات البلطيق، ما زالت القوانين تمنع الأحزاب الشيوعية التي ارتبطت بالأنظمة القمعية التابعة للاتحاد السوفييتي. إذن، فإن حظر البعث في العراق ليس شذوذاً أو استثناءً، بل هو امتداد طبيعي لتجارب عالمية راسخة أدركت أن السماح بعودة الأحزاب التي حكمت بالنار والحديد يقوّض أي تجربة ديمقراطية ويعيد عجلة التاريخ إلى الوراء.
خامساً: بين العدالة الانتقالية والانتقامية
يحاول بعض الباحثين تصوير المساءلة والعدالة بوصفها "عدالة انتقامية". لكن التجارب العالمية تثبت أن العدالة الانتقالية الحقيقية لا تساوي بين الضحية والجلاد. ففي جنوب أفريقيا مثلاً، لم يتم إلغاء مسؤولية نظام الفصل العنصري، بل فُتح ملفه قضائياً وسياسياً، مع توفير مساحة للمصالحة. أما في العراق، فإن "المصالحة" لا يمكن أن تعني إعادة بعثيين إلى البرلمان والحكومة، بل تعني بناء دولة جديدة تضمن حقوق جميع المواطنين بعيداً عن الأيديولوجية البعثية الإقصائية.
سادساً: لا عودة للبعث
إن استبعاد البعثيين وأزلام النظام السابق من الترشيح للانتخابات البرلمانية ليس مجرد قرار انتخابي عابر، بل هو خط دفاع استراتيجي عن هوية العراق الجديد، وضمانة أساسية لاستقرار النظام السياسي في مواجهة محاولات الاختراق الإقليمية والمحلية. فالخطر لا يكمن فقط في أشخاص يحاولون العودة، بل في مشروع كامل يسعى لإعادة إنتاج الاستبداد بوسائل ناعمة وبأقنعة جديدة.وفي السنوات الأخير، شهدنا أصواتاً أخذت تتعالى عبر وسائل الإعلام المختلفة، تروج علناً لحزب البعث وتتبجح وتتفاخر بأنها تنحدر من عوائل بعثية. الأخطر من ذلك أن هذه الشخصيات ليست هامشية، بل انتظمت داخل أحزاب إسلامية ووجدت طريقها إلى البرلمان، مستغلة التسيب والانحلال في تطبيق القوانين الرادعة. إن هذه الثغرات هي التي تسمح بالاختراق، وهي التي تُسيء إلى الدولة العراقية سواء عبر المؤسسات الرسمية أو عبر المنابر الإعلامية.لقد تحوّل الإعلام، ببرامجه ومحلليه ومالكي قنواته، إلى ساحة مفتوحة لبث السموم اليومية التي تحاول إعادة تلميع البعث وتبييض صفحاته السوداء. وهذا بحد ذاته جرس إنذار خطير، يثبت أن تعطيل القوانين وعدم تفعيل المساءلة والعدالة يشكل خطراً وجودياً على النظام السياسي برمته. |
المشـاهدات 31 تاريخ الإضافـة 18/08/2025 رقم المحتوى 65793 |