
![]() |
المدينة التي حلمتُ بها |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : نعمة رشيد الشريفي
كان يحلم بالضوء. لم يكن الضوء إلا نافذةً صغيرةً في جدارٍ طيني ، تطلّ على المدينة من بعيد. وحين تحقق حلمه ، تزوّج من ابنة المدينة المثقفة ، وظنّ أن النور قد غمر حياته إلى الأبد. في قريته ، يسبق الرجالُ الفجرَ إلى الحقول ، يحملون الفؤوس ، والعرق يتصبب من جباههم ، النساء يتبعن المواشي ، ويملأن القِرَب من البرك أو النهر ، لا ضوء هناك إلا بصيص فانوس ، بالكاد يكشف ما حوله. في الشتاء ، كانت الطرقات تغرق بالطين والمطر ، وفي الصيف ، الغبار يحجب الرؤية. كان الطفل الوحيد في قريته الذي التحق بالمدرسة ، واجه البرد والحرّ ، يرتدي أسمالًا ممزقة ، يلف خرقةً تحوي حبات التمر على بطنه ، ويحمل كتبه في كيس قمح بالٍ ، تعلّم الحروف ، وبدأ يدرك شيئًا من الحضارة. قرأ عن امرئ القيس وعنترة ، وكعب بن زهير ، وجرير والفرزدق ، ورسائل نزار قباني ، ونصوص جبران خليل جبران ورسائله إلى مي زيادة ، عندها فهم أن للأنوثة طيفًا آخر ، يختلف عن طيف بنات قريته. في قريته ، لا مكان للبنات في المدرسة ، أحلامهن لا تتجاوز سور البيت والبئر وزواجًا محتومًا من ابن العم. أدرك أنه لن يجد من تشاركه أفكاره ، وازدادت قناعته بعدم الانتماء. حين رفض والده إرساله إلى بغداد لأكمال دراسته ، هدد بالهرب ، باعوا له معزتين ، فغادر إلى العاصمة ، غير مدركٍ أنهم كانوا يدفعون ثمن تحوّله إلى شخصٍ آخر. عاد في أول عطلة بشعر دهني لامع ، وبدلة أوروبية ، وحذاءٍ مكسوٍّ بالفرو ، بنات القرية تركن دلاءهن عند البئر ، وتبعنه بنظرات مدهوشة ، كان صوته ناعمًا لا يشبه خشونة أبناء قريته ، وكانت تحيتهن له كأنها طقس من طقوس الذهول. التحق بوظيفة حكومية ، وقع في حب زميلة جامعية أنيقة ومثقفة ، تعرف أسماء الكتّاب وسعر العطور، وتسكن في قلب المدينة ، رفض الزواج من ابنة عمه فطوم ، فغضبت القبيلة وكأنه خرج من ملتهم. استعان بخاله ، عرّاب القرية ، ليقدمه إلى معشوقته. في يوم عرسه ، جاء أهل القرية كلهم ، لا ليباركوا ، بل ليشاهدوا المدينة تمشي على قدميها بينهم ، بفستان لا يفهمونه ، وشفاه حمراء لامعة ، دوّت الطبول حتى الصباح ، لكن المدينة لم تحتمل الطين ، فطلبت الرحيل، فرحل معها. وهناك... بدأ يرى وجهًا آخر للمدنية ، كانت تتحدث مع الرجال بلطفٍ مبالغ فيه. ملابسها تزعجه. حديثها عن الحرية والمساواة يُشعله. كلما سألها اين كنتِ ؟ ردّت ببرود ، ألا تثق بي ؟ كان يغلي ، عروقه القروية تنبض بالغيرة. تطلب منه أن يكون صديقًا ، بينما هو يريدها زوجة حين يطلب القرب ، تصفه بالهمجية. وحين يشتاق ، تتهمه بأنه قروي تحركه الغريزة ، طلبت أن تحافظ على جمالها وعملها ورشاقتها ، فجلب والدته المريضة لتعتني بالأطفال ، أصبحت أمّه خادمة ، بينما هي تقرأ رواية على السرير، وتطلب قهوة فرنسية. لا تشاركه مصروف البيت ، تستدين منه لتشتري سجادة مودرن أو بدلة بماركة عالمية. وحين يحاول الحديث، تجيبه بكلمات باردة كالثلج ، اكتشف متأخرًا أن ما حلم به لم يكن إلا وهمًا ، هيكل فارغ ، مكسوٌّ بالضوء الزائف. لا دفء ، لا طمأنينة ، لا شراكة. ذات مساء ، جلس في شقته الواسعة يشرب الشاي. من خلف الباب ، كانت أمه تبكي بصمت ، نظر حوله ، وداخل نفسه ، وأيقن أنه خرج من الطين....... ليرتمي في الوحل |
المشـاهدات 24 تاريخ الإضافـة 20/08/2025 رقم المحتوى 65831 |