الأربعاء 2025/8/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 33.95 مئويـة
نيوز بار
المدينة التي حلمتُ بها
المدينة التي حلمتُ بها
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

نعمة رشيد الشريفي

 

كان يحلم بالضوء.

لم يكن الضوء إلا نافذةً صغيرةً في جدارٍ طيني ، تطلّ على المدينة من بعيد.

وحين تحقق حلمه ، تزوّج من ابنة المدينة المثقفة ، وظنّ أن النور قد غمر حياته إلى الأبد.

في قريته ، يسبق الرجالُ الفجرَ إلى الحقول ، يحملون الفؤوس ، والعرق يتصبب من جباههم ،  النساء يتبعن المواشي ، ويملأن القِرَب من البرك أو النهر ، لا ضوء هناك إلا بصيص فانوس ، بالكاد يكشف ما حوله.

في الشتاء ، كانت الطرقات تغرق بالطين والمطر ، وفي الصيف ، الغبار يحجب الرؤية.

كان الطفل الوحيد في قريته الذي التحق بالمدرسة ،  واجه البرد والحرّ ، يرتدي أسمالًا ممزقة ، يلف خرقةً تحوي حبات التمر على بطنه ، ويحمل كتبه في كيس قمح بالٍ ، تعلّم الحروف ، وبدأ يدرك شيئًا من الحضارة.

قرأ عن امرئ القيس وعنترة ، وكعب بن زهير ، وجرير والفرزدق ، ورسائل نزار قباني ، ونصوص جبران خليل جبران ورسائله إلى مي زيادة ، عندها فهم أن للأنوثة طيفًا آخر ، يختلف عن طيف بنات قريته.

في قريته ، لا مكان للبنات في المدرسة ، أحلامهن لا تتجاوز سور البيت والبئر وزواجًا محتومًا من ابن العم.

أدرك أنه لن يجد من تشاركه أفكاره ، وازدادت قناعته بعدم الانتماء.

حين رفض والده إرساله إلى بغداد لأكمال دراسته ،  هدد بالهرب ، باعوا له معزتين ، فغادر إلى العاصمة ، غير مدركٍ أنهم كانوا يدفعون ثمن تحوّله إلى شخصٍ آخر.

عاد في أول عطلة  بشعر دهني لامع ،  وبدلة أوروبية ، وحذاءٍ مكسوٍّ بالفرو ، بنات القرية تركن دلاءهن عند البئر ، وتبعنه بنظرات مدهوشة ، كان صوته ناعمًا لا يشبه خشونة أبناء قريته ، وكانت تحيتهن له كأنها طقس من طقوس الذهول.

التحق بوظيفة حكومية ،  وقع في حب زميلة جامعية أنيقة ومثقفة ، تعرف أسماء الكتّاب وسعر العطور، وتسكن في قلب المدينة ، رفض الزواج من ابنة عمه فطوم ، فغضبت القبيلة وكأنه خرج من ملتهم.

استعان بخاله ، عرّاب القرية ، ليقدمه إلى معشوقته.

في يوم عرسه ، جاء أهل القرية كلهم ، لا ليباركوا ، بل ليشاهدوا  المدينة تمشي على قدميها بينهم ، بفستان لا يفهمونه ، وشفاه حمراء لامعة ، دوّت الطبول حتى الصباح ، لكن المدينة لم تحتمل الطين ، فطلبت الرحيل، فرحل معها.

وهناك... بدأ يرى وجهًا آخر للمدنية ، كانت تتحدث مع الرجال بلطفٍ مبالغ فيه.   ملابسها تزعجه.  حديثها عن الحرية والمساواة يُشعله.  كلما سألها اين كنتِ ؟ ردّت ببرود ، ألا تثق بي ؟ كان يغلي ، عروقه القروية تنبض بالغيرة.  تطلب منه أن يكون  صديقًا ،  بينما هو يريدها  زوجة 

حين يطلب القرب ، تصفه بالهمجية.  وحين يشتاق ، تتهمه بأنه قروي تحركه الغريزة ،  طلبت أن تحافظ على جمالها وعملها ورشاقتها ، فجلب والدته المريضة لتعتني بالأطفال ،  أصبحت أمّه خادمة ، بينما هي تقرأ رواية على السرير، وتطلب قهوة فرنسية.

لا تشاركه مصروف البيت ، تستدين منه لتشتري سجادة مودرن أو بدلة بماركة عالمية.  وحين يحاول الحديث، تجيبه بكلمات باردة كالثلج ، اكتشف متأخرًا أن ما حلم به لم يكن إلا وهمًا ، هيكل فارغ ، مكسوٌّ بالضوء الزائف. لا دفء ، لا طمأنينة ، لا شراكة.

ذات مساء ، جلس في شقته الواسعة يشرب الشاي.  من خلف الباب ، كانت أمه تبكي بصمت ، نظر حوله ، وداخل نفسه ، وأيقن أنه خرج من الطين....... ليرتمي في الوحل

المشـاهدات 24   تاريخ الإضافـة 20/08/2025   رقم المحتوى 65831
أضف تقييـم