الأربعاء 2025/8/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 40.95 مئويـة
نيوز بار
القصيدة التي تقرأ قارئها: قراءة في "مجموعة طفل شقي" لمروان ياسين الدليمي
القصيدة التي تقرأ قارئها: قراءة في "مجموعة طفل شقي" لمروان ياسين الدليمي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

بولص آدم

 

  صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد مجموعة شعرية بعنوان «طفل شقي» للشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي، ضمّت اثنين وعشرين نصًا شعريًا، جميعها تتحرك ضمن النطاق الحر لقصيدة النثر الحديثة، وقد توزعت النصوص على (204) صفحة من القطع المتوسط. هذه المجموعة ليست فقط عتبة جديدة في تجربة الشاعر، بل هي أيضًا اختبار مفتوح للقارئ، الذي لا يُمنح ترف التفسير الجاهز، لكنه يُدعى إلى الدخول في تجربة تلقي فريدة، يتبدل فيها المعنى مع كل قراءة، وينعكس النص فيها كمرآة حادة ومربكة في آن.

النص في "طفل شقي" يُوجّه خطابَه إلى طبقات من القرّاء: قارئ يبحث عن المعنى... ويضل طريقه. قارئ يلتذُّ بالمجازات... ثم يُصفع بلحظة كشف فجّة. قارئ يشبه الطفل الشقي... فيبحث عن صورته بين سطور ضبابية. وهنا تظهر إحدى نقاط القوة الجمالية في المجموعة: اللايقين المقصود كأداة شعرية تخلق تفاعلًا دائمًا مع القارئ، بحيث لا يتورط القارئ فقط في البحث، بل في السؤال عن جدوى البحث نفسه.

  في هذا العالم الشعري المتشظي، لا تتعامل اللغة مع الواقع، بوصفه شعورًا جارحًا ومراوغًا. هنا لا تصنع القصيدة بيتًا آمنًا، بل تورّط القارئ في احتمالات غير مكتملة للمعنى. وهذا ما يجعل "منهج التلقي"، كما نظّر له ولفغانغ آيزر وهانس روبرت ياوس، إطارًا نقديًا مناسبًا لتأمل هذه النصوص؛ لأن "طفل شقي" لا يُقرأ بحثًا عن مضمون، بل يُقرأ لما يفعله في القارئ، ولِما يوقظه من استجابات غير متوقعة في داخله.

يرى آيزر أن «النص الأدبي يحتوي على فراغات مقصودة تُجبر القارئ على ملئها»، وهذا ما يتحقق في كثير من نصوص المجموعة، حيث يتكرر الانقطاع والتشظي، ويُترك للقارئ أن يرمم المعنى أو أن يتقبّل انكساره. فالسطر الذي يقول:

"غالبًا ما أعثر عليّ حين افتقدني / مركونًا في زاويةٍ قصيّة من روحي..." (ص29)،

لا يعبّر عن أزمة فردية بقدر ما يضع القارئ وجهًا لوجه أمام تجربة التشظي الوجودي المعاصر. إنها لحظة غريبة من الإدراك المعلق، لا تُفهم، بل تُعاش، وتوقظ في القارئ رجعًا ذاتيًا ربما لم يُفكر فيه من قبل.

في هذا السياق، يصبح القارئ شريكًا لا سائلًا، ومفعولًا به بقدر ما هو فاعل. كما كتب هانس ياوس: «التجربة الجمالية لا تتم إلا بقدر ما يُعاد تشكيل النص في وعي المتلقي». ولذلك فإن "طفل شقي" يُقرأ كمرآة قلقة. حين يقول:

"هل قلتُ ورق؟ نعم، ورق. فقط ورق!" (ص26)،

فإن القارئ لا يضحك فحسب، بل يشعر أن اللغة نفسها بدأت تفقد سلطتها. تتكرر الكلمات حتى تتعرى، ثم تنفلت من معانيها، وكأن القصيدة تذكّره بأن ما بين يديه ليس قولًا مألوفًا، بل أثرٌ لما لم يُقل.

هذه اللحظات التي تنهار فيها اللغة لا تضعف القصيدة، بل تمنحها قوتها الخاصة. "طفل شقي" لا يخاطب قارئًا يبحث عن خلاص، بل يقيم علاقة ندية بين النص وقارئه، حيث لا امتياز لأحد، وكلّ شيء قابل للتأويل أو التبدد. وما يمنحه النص للقارئ أثر داخلي، يتلوّن بالحيرة والضحك والخذلان.

"أنا طفلٌ شقيّ / يعرف جيدًا كيف يروّض الكلاب السائبة / وينفخ فقاعات من الصابون الملوّن..." (ص112).

ليس هذا وصفًا بريئًا، بل صورة رمزية لذات متشظّية، تحتفظ بروح اللعب وسط عالم قاسٍ. القارئ هنا لا يكتفي بالتأمل، يجد نفسه طرفًا في المشهد، يعيد تفكيك علاقته بذاته، بطفولته، وبخساراته التي لم تُقل.

ويعود آيزر ليؤكد أن «فعل القراءة هو إعادة كتابة للنص، لكن في وعيٍ مغاير»، وهذا ما نلمسه تمامًا مع "طفل شقي". فكلما حاول القارئ أن يمسك بصورة أو معنى، وجدها تتفلّت أو تنقلب عليه. لا توجد قصيدة تنتهي.. هناك كتابة مفتوحة تُحسن إدارة المسافة بين ما يُقال وما يُترك، لتدع القارئ يبني تجربته الخاصة.

"الطريق يقودنا إلى طريق / وأوراق اللعب تسحبنا واحدًا بعد الآخر..." (ص63).

جملة كهذه لا تستدعي تفسيرًا منطقيًا، بل تستدعي استجابة شعورية. إننا لا نعرف وجهتنا، لكننا نعرف شعور الغرق في التكرار والعبث. النص يُلقي بالقارئ في متاهة، وهي المتاهة ذاتها التي نعيشها في حياتنا المعاصرة، داخل لغة منهَكة وزمن هشّ.

وهكذا يصبح القارئ في "طفل شقي" طرفًا خاسرًا ومتورّطًا: يخسر الوضوح، لكنه يربح التأمل؛ يخسر السيطرة على المعنى، لكنه يربح هشاشةً إنسانية يصعب تعويضها. وهذا أحد أقصى أشكال الفعل الشعري: أن يتنازل النص عن سطوته ليمنح القارئ لحظة صدق غير قابلة للتفسير.

"أستعيدني من شرفتي / في زجاجات عبأتُ فيها ثمالتي من الكلام..." (ص102).

هنا لا نقرأ تجربة شخصية فقط، بل نُستدرج إلى سؤال أعمق: ماذا نفعل باللغة حين نكتب؟ وماذا تفعل بنا حين نكفّ عن الكلام؟ قد تكون الكتابة وسيلة نسيان أكثر منها أداة تذكّر، أو وسيلة لنجاةٍ مؤقتة من مواجهة الذات.

في "طفل شقي", لا تتعامل القصيدة مع اللغة بوصفها زينة أو خطابًا بلاغيًا، لكن، بوصفها حيّزًا بين الكلام والصمت، بين ما يُحكى وما يُفلت. وهذا ما يجعل الشعر هنا تجربة داخلية تُعاش. ليس الشعر أداة توصيل، هو فضاءٌ يكشف القارئ، ويختبره، ويمتحن ذاكرته، ومقدار خفّته أو ثقله.

في نهاية هذه الرحلة، لا يمنح الديوان للقارئ شيئًا نهائيًا، لكنه يمنحه ما هو أعمق: الحق في الحيرة، ورفاهية التورط في نص لا يقول كل شيء، لكنه يترك خلفه أثرًا لا يُمحى. أثرٌ يجعلنا نعيد النظر في أنفسنا أكثر مما نعيد النظر في النص.

نخرج من "طفل شقي" بذات الشعور الذي يولّده طفلٌ حائر في متحف، يسأل: من صنع هذه التماثيل؟ ولمن تبتسم هذه الغيوم؟ لا توجد إجابات.. هناك لغة على وشك الانفجار، ضحكة مكتومة تحت الرماد، وطفل لا ينام إلا إذا خاف من نفسه.

ليس المهم ما أراده الشاعر. المهم ما حدث لنا نحن أثناء القراءة. وحين نخرج من هذه المجموعة بشيء من الحزن، وبكثير من التأمل، فإننا ندرك أن القصيدة، أحيانًا، لا تحتاج أن تقول كل شيء، لأنها تكون قد قرأتنا قبل أن نبدأ بقراءتها.

 

المشـاهدات 78   تاريخ الإضافـة 20/08/2025   رقم المحتوى 65834
أضف تقييـم