الأحد 2025/9/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 24.95 مئويـة
نيوز بار
قصة (مسبحة أبي) للقاص عبدالأمير المجر .. من القداسة إلى اللعنة الصامتة
قصة (مسبحة أبي) للقاص عبدالأمير المجر .. من القداسة إلى اللعنة الصامتة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 


داود السلمان


قصة "مسبحة أبي" للقاص عبد الأمير المجر، كما نشرها في صفحته الرسمية على الفيس بوك، تحمل بُعدًا رمزيًا كثيفًا يتجاوز ظاهر السرد المباشر، وتغوص في طبقات متعددة من الدلالة النفسية والاجتماعية والسياسية. القصة تنطلق من عنصر بسيط ظاهريًا: مسبحة يمتلكها الأب منذ سنوات طويلة، لكنها تتحوّل مع تقدم السرد إلى مركز ثقل وجودي ونفسي يتجاوز طبيعتها المادية. منذ الجُمل الأولى، يُلمّح الكاتب إلى غموض يحيط بهذه المسبحة، لا أحد يعرف مصدرها ولا عدد خرزاتها، وكأنها كائن حيّ يحمل سره في داخله، وتنتشر عنه الحكايات بين الناس كما تنتشر الأساطير والخرافات. يتعامل الأب مع المسبحة ليس كمجرد أداة ذكر أو زينة، بل كمصدر هوية وفخر شخصي، وشيء يتجاوز دوره الرمزي إلى أن يصبح كيانًا يتنفس من خلاله، حتى أن فخره بها يتكرر في كل مجلس وكأنها تُعوض شيئًا ناقصًا في داخله.

ونلاحظ، العلاقة بين الأب والمسبحة ليست متكافئة؛ إنها علاقة عبودية عاطفية، يتماهي فيها الرجل مع شيء خارجي في محاولة لتعويض داخلي، ربما يتعلق بالخواء أو العجز أو فقدان السيطرة. وهذه العلاقة المفرطة تُثير الحسد والتندر بين الناس، وتُحاط بالإشاعات، في إشارة إلى المجتمع الذي لا يرى في هذا التعلق المفرط سوى مادة للشك أو السخرية، وهو أمر يشير إلى كيف يتعامل الناس مع من يخرج عن السلوك المألوف أو يخلق لنفسه رمزية خاصة. الأم التي تمثل الطرف المقابل للعقلانية الحياتية، تنظر إلى المسبحة باعتبارها لعنة، سببًا لكل أمراضها، لأنها خطفت زوجها من حياته اليومية، وسحبته إلى عالم مغلق ومهووس. هذه الرؤية تكشف أن المسبحة، رغم كونها شيئًا مقدسًا في الظاهر، صارت عبئًا نفسيًا على صاحبها، بل وسببًا في تفكك العلاقات الأسرية.
وقد بلغ التماهي حدّه حين بدأ الأب يحلم بكوابيس تتعلق بضياع المسبحة أو تلفها أو احتراقها، ويشعر حيال ذلك برعب وجودي، وكأن حياته كلها معلّقة بخيط هذه المسبحة. ثم تتصاعد الأزمة حين تظهر القروح في يديه بسبب خرز المسبحة، فيتحول الشيء الذي كان مصدر نشوة وفخر إلى أداة تعذيب جسدي، تترك أثرها على الجسد كما تركت من قبل أثرها على الروح. لا يخبر أحدًا بمعاناته، ويختار الصمت، كما يختار الانزواء، في علاقة تشبه علاقة الضحية بجلاّد محبوب.
وهنا نرى، ذروة القصة تأتي مع مشهد العاصفة، حيث يغدو كل شيء في المدينة مُعكّرًا ومضطربًا، والناس يتهامسون عن الكارثة القادمة، فيما يبقى الأب في مقهاه، صامتًا حزينًا، يواجه آخر أيامه. وتُختتم القصة بمشهد سريالي، تتناثر فيه حبات المسبحة، وتتحول المدينة كلها إلى كائنات هجينة، بشر بعين العقارب والثعابين، تمسك كل شخصية فيها مسبحةً خاصة، تداعبها بأصابع تشبه المخالب، وتبتسم للآخرين ابتسامات صفراء. هذا المشهد الأخير يفتح باب التأويل الرمزي على مصراعيه، حيث تتحول المسبحة من كونها رمزًا فرديًا لتعلّق مرضي، إلى دلالة جماعية على التشوه الجمعي، على التورّط العام في هوس القيم الفارغة، أو التمسك بالرموز القشرية على حساب الجوهر.
وبشكل عام، القصة تُستخدم فيها المسبحة كرمز كثيف الدلالة، ليس بوصفها أداة دينية أو مظهرًا من مظاهر الورع، بل بوصفها استعارة لهوس الإنسان المعاصر بالتعلّق بالأشياء كتعويض عن فقدان المعنى. كما أنها نقدٌ خفيّ للعقلية التي تُقدّس الرموز وتنسى الإنسان، حيث تحوّل الجميع إلى كائنات ممسوخة، بشر يحملون مسابح لكن لا يحملون قلبًا حيًا أو عقلًا متسائلًا. كذلك، يظهر فيها نقد اجتماعي للنفاق الجمعي، ولتحول التديّن أو التمسك بالمقدس إلى أداة قهر، أو تميّز زائف، ينتهي بصاحبه إلى العزلة والاحتراق الذاتي.
أما الصياغة اللغوية للقصة فتتسم ببساطة موحية، ولغة خالية من الزخرفة لكنها مشحونة بالرمزية، ما يضفي عليها طابعًا حسيًا مرئيًا، خاصة في مشهد النهاية السريالي، الذي يعكس هول التحوّل، والخراب الذي أصاب المدينة، لا كعاصفة طبيعية فقط، بل كتحوّل أخلاقي وروحي واجتماعي. والقصة في النهاية، لا تقدم أجوبة، لكنها تفتح أبوابًا كثيرة للتفكير، وتُحذر من الانغماس في الرموز على حساب الجوهر، ومن تقديس الأشياء على حساب الحياة نفسها.

المشـاهدات 15   تاريخ الإضافـة 14/09/2025   رقم المحتوى 66632
أضف تقييـم