الأحد 2025/11/16 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
نيوز بار
مرايا د. شيرين النوساني
مرايا د. شيرين النوساني
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

ناصر أبو عون

شيرين النوساني مُترجمة وكاتبة أكاديمية تعيش في المنطقة الوسطى ما بين غابات السنديان التي تراقص الضوء على لحنٍ إيطاليّ طَرِيٍّ يُقَطِّرُ شَهْدَ الموسيقى على شِفاهِ الشوارع في فلورنسا فتسيل الحِكمة على ألسنة السائرين نيامًا في أزقّة روما وتسبحُ قصص العُشّاق تحت نوافذ البندقية المسافرة في صفحات التاريخ، وما بين مُزُون المتون العربيّة الحُبلى بالصور الشعريّة، والمزنَّرة بالقداسةِ، والناطقة باليقين مهما أخذتها موجات الانزياح بعيدًا، والموشومة بالجمال الإلهيّ المبين.. تخطو شيرين النوساني واثقةً كبجعة على بندول ساعة (بولغاري) ما بين موجات شِعرية من (السوناتة) و(التيرزا ريما)، وتأخذنا على جُنْحِ صقرٍ عربيّ إلى حدائق اللغة العربية لتقطف لنا وردة البلاغة فيُسْكرنا عبيرها.

في قصة "بين.. بين" للدكتورة شيرين النوساني يُجدّف السَّرد في بحيرة من شِعْر، وتعزف قُبلات خيال على أوتار الكمان من كونشيرتو المتاهة أمام أوركسترا الأبواب المغلقة بحثا عن إجابات يقينية تسدّ فوّهة بركان ينفث حمم الأسئلة التي تنشر سحابات من دُخَان تخنق النائمين على وسادة المُسلمّات، والمُردِّدين عبارة: "لا جديد تحت الشمس".. فلنقرأ معًا هذه القصة: [كان الممر ضيقا، جدرانه من ضوء خافت يتكسر عند اللمس.. كل باب أطرقه يفضي إلى باب آخر، حتى صرت أتساءل: أأنا السائر حقا، أم أن الممر هو الذي يعبر بي؟.. في المرايا تتبدل الملامح، وجهي ينزلق إلى وجوه غريبة، وصوتي يخرج كصدى لا أعرفه.. هناك، عند عتبة باب بلا اسم، أدركت أن الحقيقة ليست نهاية الطريق، بل متاهة أخرى مخفية في قلب الوهم.وعرفت أن كل باب لا يُفتح، إنما يظل قائما ليذكرني أن الطريق نفسه هو الجواب].

في هذه القصة استعارت القاصة د. شيرين النوساني تقنية المونتاج من فن السينما، واستطاعت عبر لغة أثيرية ترتكز على الجمل القصيرة تقطيع المشاهد لتبدو اللوحة القصصيّة في مخيّلة القاريء كفيلم تسجيليّ حالم، بل ظهرت براعة القاصّة أكثر في تقطيع ولصق المشاهد المتتالية بمقص اللغة، والتي نجحت من خلالها في صناعة مشاهد حيّة متوازية، أو بتعبير أدق مرايا متقابلة تغطي كامل جدران متاهة الروح؛ لتعكس صراع الشخصية مع العالم ومع ذاتها.

ويأتي المكان في القصة افتراضيًا تخييليًا؛ فهو بمثابة متاهة غير معلومة الملامح شيّدتها القاصة داخل قبو العقل؛ حيث تتصارع المتناقضات، وتتسابق الأسئلة في مارثون لاهث عبر طرق متشابهة تنتهي عند باب الحقيقة؛ حيث يصطدم القراء بمفارقة عجيبة في السطر الأخير من القصة تقول لنا فيه: (لِيُذَكِّرَها أن الطريق نفسه هو الجواب).

وعلى منحى آخر فإن قصة (بين.. بين) تنتمي إلى تيار الوعي في القصة القصيرة المصرية، والذي شهد موجات من التقلبات وخصوصًا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ حيث ساد تكنيك البوح المستند إلى التعبير عن الذات، وكان هو الثيمة الرئيسة في بِنية القصة القصيرة المصرية - حيث نشاهد يوميا 125 مليون مواطن (كل واحد ماشي يكلم نفسه)-

ويُساند هذا البوح القصصي الصادق منولوج بسيط غير معقّد، وحديثٌ عاقلٌ متزنٌ يأخذنا إلى حيث تُريدنا الكاتبة ويكشف لنا عما يعتمل في نفسها، وما تواجهه من صراعات حادة وقاصمة بين لغة العصر الماديّ الجديد الذي اتجه إلى (تَسْلِيْع) كلِ شيء، ونال من منظومة القيم المجتمعية المتوارثة.

وفي هذه القصة ليس هناك سوى صوت واحد فقط، ولا تتعدد الأصوات - كما هو شائع بين سائر كُتّاب القصة القصيرة والمشتغلين بالسَّرد (عربيًّا)-!.. وقد اعتمدت د. شيرين النوسانيّ في قصتها (بين.. بين) على صوت واحدٍ مُتفرِّدٍ ويتيم منعزل عن العالم المحيط ويدور في دائرة مغلقة داخل عقل الراوية/الشخصية المحورية؛ كشفت من خلاله عن طبيعة العلاقة بينها وبين الرواي، وعرّت العلاقة الشائكة بين الراوي المتكلم والشخصية المحورية داخل بِنية القصة.

وثمة سمة أخيرة امتازت بها قصة شيرين النوساني ألا وهي تحقيق ما يُسمى بـ(الكثافة اللغوية)، حيث استطاعت تشذيب حديقتها اللغوية من التعبيرات الضارة والكليشيهات المستهلكة والاستهلالات المتاشبهة والمفردات المكررة بين سائر كُتَّاب القصة القصيرة، وهاتيك السمة نابعة من طبيعة اشتغال النوساني بالترجمة، وربّما راجع هذا للبيئة التربوية التي نشأت فيها، فضلا عن قدرتها على خطف القاريء من أعلى قمة في الذروة، لتهبط به إلى النهاية المفاجئة، وكسرت بداخله أُفق التوقّع.

المشـاهدات 20   تاريخ الإضافـة 15/11/2025   رقم المحتوى 68303
أضف تقييـم