حين يتبدّل الهواء
![]() |
| حين يتبدّل الهواء |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
لا أعرف كيف يتهيّأ القلب لبلادٍ لا تشبه ذاكرته. بلادٌ حين تسير فيها تشعر أنّ الهواء خفيف، كأن أحداً رفع عن صدرك حجراً كنت تظنه جزءاً من ضلعك. بلادٌ لا تختبئ فيها الكلمات خلف السقف، ولا تخاف العيون من العيون، ولا ينهض الإنسان صباحاً ليفكّر بأي وجهٍ سيرتديه قبل أن يخرج إلى العالم. هناك، يصبح الصدق عادة يومية، مثل شرب الماء. لا بطولة في ألا تكذب، ولا إنجاز في ألا تنافق. إنه السلوك الطبيعي… الطبيعي إلى حدّ مزعج لمن اعتاد اليقظة الدائمة وعضّ الأسنان قبل كل خطوة. في مكانٍ كهذا، تفاجئك البساطة. تجد نفسك وحيداً دون الحاجة إلى درعٍ أو سلاح. تمشي ولا أحد يحصي أنفاسك، ولا أحد يقيس خطواتك بمسطرة الشك. وتكتشف أن الأمان ليس جداراً عالياً… بل هو غياب فكرة الجدار أصلاً. لكن حين تعود بذاكرتك إلى ما مضى، تُدرك أن المشكلة لم تكن في الشوارع، ولا في الحكومات، ولا في الحروب. كانت المشكلة في ذلك الانكسار الداخلي الذي جعل الفرد يعيش بمخزن كامل من الشخصيات، يخرج منها واحدة عند الضيق، وأخرى عند الخوف، وثالثة عند الطمع، حتى صار كل إنسان أشبه بعمارة تسكنها غرف كثيرة لا تعرف أين تُضاء وأين تُطفأ. هناك من اعتاد تبديل الأقنعة كما يبدّل نبرة ضحكته. لا يرى تناقضاً في الانقلاب السريع من ودّ إلى غيظ، من احترام إلى تهشيم، من عهد إلى خيانة. كأنه يتحرك في بيته بين غرف متعددة، وكل غرفة لها رجل، ولكل رجل قصة، ولكل قصة وجه لا يشبه الآخر. وحين تحاول أن تشرح له ما يفعله، ينظر إليك بدهشة طفل فوجئ بأن ضوء الشمس ليس أبيض كما ظن، بل مزيج ألوان. كيف يدرك ذلك؟ وهو يشعر منذ زمن أن الغبار هو شكلٌ طبيعي للسماء، وأن الوضوح حالة نادرة تشبه المعجزة. الأقسى من كل ذلك أنّ الخراب النفسي لا يحدث بصوت. هو حريق بطيء، يبدأ بجرح صغير، ثم يتّسع، إلى أن يتشوّه داخل الإنسان ولا يختفي منه إلا الرماد. ومَن يبرّر هذا الخراب بالظروف، نسي أن الظروف نفسها أنجبت أيضاً أناساً ظلّت وجوههم وجوهاً، ولم تتحوّل إلى أقنعة. وأنت، حين تعيش نصف عمرك في مكان نظيف، تدرك فجأة أن وطنك الذي أحببته كان يختبئ خلف جدران داخلية، وأن صورتك عنه كانت لوحة ناقصة الألوان. في المنفى ترى الوطن أوضح… وأحياناً أوجع. وفي الوطن ترى المنفى أعمق… وأحياناً أصدق. فالواقع الذي يبدو ثابتاً غالباً لا يكون كذلك. له أبواب جانبية، وممرات سرية، وطبقات لا تُرى إلا حين تقف في مكان بعيد عنه. قد تبدو المدينة هادئة، لكن تحت السطح أصواتاً لم نسمعها لأننا كنا نتعايش معها كما يتعايش السمك مع الماء الملوّث دون أن يدرك. ومع مرور الوقت، تتحوّل الأقنعة إلى وجوه رسمية، وتصبح اللعبة علنية، ويختفي الواقع خلف العروض والبرامج والخطب، ويصدّق الناس المسرحية لأنهم تعبوا من النظر خلف الستائر. لكن الأدب، إن كان أدباً، لا ينشغل بتسجيل ما نراه الآن، بل بما سيهدمه الغد وما سيبقى بعد الهدم. إنه ليس عدسة كاميرا، بل مطرقة نور تضرب السطح لتكشف ما خلفه. الرؤية ليست عيناً تتجه للأمام، بل بوصلة تغرز في قلب العالم وتبحث عن مستقبله المظلم قبل أن يحدث. وفي نهاية هذه المتاهة، تبقى الحقيقة البسيطة: الإنسان الذي يتحوّل إلى قناع واحد ليس أخطر ممن يملك عشرة، بل الخطر حين تصبح الأقنعة جزءاً من جلده، حين لا يعود يميّز أين يبدأ هو… وأين ينتهي الزيف. ذلك هو الزمن الذي يولد فيه الذئب: ليس ذئب الغابة، بل ذئب الوجوه… ذلك الذي يمشي بين الناس ولا يعرف أحدٌ وجهه الحقيقي، وربما… لا يعرفه هو نفسه. |
| المشـاهدات 44 تاريخ الإضافـة 18/11/2025 رقم المحتوى 68408 |
أخبار مشـابهة![]() |
زمنُ الأقنعة… حين صارتِ السرقةُ فضيلةً |
![]() |
حين يتعب الكلام من السياسة
|
![]() |
أمانة بغداد: توثيق أضرار خلفتها دعايات لمرشحين واستقطاع مبالغ إصلاحها من التأمينات
المفوضية: على المرشحين والأحزاب السياسية إزالة مفردات الدعاية الانتخابية خلال 30 يوماً |
القبض على شقيق احد النواب يقوم بشراء البطاقات الانتخابية جنوبي الديوانية
اعتقال ستة اشخاص كانوا يقومون بسرقة لافتات المرشحين في شمال الحلة |
![]() |
التجارة تجهّز الوكلاء بمليوني كيس طحين وتكثّف رقابتها على عمليات الإنتاج والتوزيع
|
توقيـت بغداد








