الأربعاء 2025/12/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 15.95 مئويـة
نيوز بار
سيادةٌ مؤجَّلة حتى إشعارٍ آخر
سيادةٌ مؤجَّلة حتى إشعارٍ آخر
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د.لمياء موسى
النـص :

 

 

 

حينَ ينقشعُ غطاءُ الأمن،

 

يُصابُ الوطنُ بزمهريرِ الخوف،

 

تتكسّرُ وحدتُهُ

 

إلى شظايا فِرَقٍ متناحرة،

 

ويستوطنُ الغريبُ أرضَهُ،

 

ويغدو صاحبُ الدارِ غريبًا فيها.

 

يتقاتلُ الإخوةُ

 

تحتَ ضغطِ الطوائف،

 

وتغدو العشيرةُ أهمَّ من الوطن،

 

والمذهبُ أثمنَ من الإنسان،

 

فيما يقفُ المحتلُّ على الأبواب،

 

يؤجِّجُ نيرانَ الفتنة،

 

ينفخُ في رمادِها،

 

كي يبقى اللهيبُ مشتعلًا

 

في صدورِ الضعفاء.

 

يُعدّ الأمن وبسطُ نفوذ الدولة على كامل إقليمها من أهمِّ مؤشرات اكتمال أركان الدولة والركيزةِ الجوهرية لوجودها القانوني واستقرارها السياسي. فلا تتحقق السيادة الفعلية إلا حين تكون الحكومة قادرةً على فرض النظام، وحماية حدودها، وضمان سلامة مواطنيها وممتلكاتهم في جميع أرجاء أرضها.إذ إن فقدان السيطرة على أيّ جزءٍ من الإقليم، سواء بفعل نزاعات داخلية أو تدخلات خارجية، يُعدّ مساسًا مباشرًا بمبدأ السيادة، ويؤدي إلى انتقاص أهليتها وشرعيتها في الساحة الدولية، مما يجعلها عرضةً لتحديات داخلية وخارجية تهدد استقرارها.ويُجمع الفقه القانوني على أن ضعف سلطة الدولة يُظهر خللًا في بنيتها المؤسسية والأمنية، ويُفقدها إحدى أهم وظائفها الجوهرية، وهي حفظ الأمن والنظام العام. ومن ثمّ، فإن الأمن الوطني وبسطَ السلطة الشرعية على الإقليم ليسا مجرد مظهرٍ من مظاهر الدولة، بل هما جوهر قيامها واستمرارها في نظر القانون الدولي.ومن هذا المنطلق، أعزائي القرّاء، نتناول في هذا المقال قضيةً حيوية تمسّ جوهر سيادة الدولة العراقية، وتتعلق بالوضع القانوني لوجود القوات الأجنبية على أراضي العراق. ومناقشة الإطار القانوني لبقائها لا ينفصل عن مبدأ سيادة الدولة ووحدتها الإقليمية، وعن حق الشعب في تقرير مصيره وإدارة شؤونه الأمنية والعسكرية بصورة مستقلة.فالعراق، الذي كان على الدوام يتمتع بمكانة إقليمية بارزة ودورٍ مؤثر في محيطه العربي والدولي، يواجه اليوم تحديًا جوهريًا، وهو احتكار استخدام القوة داخل الإقليم وبسط السلطة الوطنية دون منازع.في عام 2003، شنّت الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم من بريطانيا، غزوًا عسكريًا للعراق، في تحدٍّ صارخٍ لمبادئ القانون الدولي وقرارات المجتمع الدولي. وقد صُوّر الغزو على أنه وسيلة لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، مستندًا إلى مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ومحاربة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، مع الإشارة إلى علاقة مفترضة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة، رغم غياب دليلٍ قاطع يثبت ذلك. كما ارتكزت المبررات الرسمية على فكرة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، لتشكّل غطاءً سياسيًا يضفي شرعية على التدخل العسكري أمام الرأي العام الدولي.ومع سقوط النظام، أعلنت واشنطن نفسها قوة احتلال، فتولّت إدارة شؤون العراق مباشرة من خلال سلطة الائتلاف المؤقتة، التي مارست كامل صلاحيات الدولة في ظل انهيار مؤسساتها وتفكك الجيش العراقي. وقد أفرز هذا الوضع فراغًا أمنيًا واسعًا وأزمة طائفية طويلة الأمد، تركت آثارها العميقة في المجتمع وبنية الدولة، وما زالت تداعياتها ممتدة حتى اليوم.وبحلول عام 2004، جرى تسليم السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة، لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات مع الوجود الأمريكي. وفي إطار اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين، بدأت القوات الأمريكية انسحابها التدريجي، حتى أعلنت رسميًا في عام 2011 انسحاب جميع قواتها القتالية. غير أن هذا الانسحاب ظلّ إداريًا وسياسيًا أكثر منه ميدانيًا، إذ بقي عدد محدود من المدرّبين والمستشارين والبعثات الأمنية في بغداد تحت مسميات مختلفة، محافظًا بذلك على وجود أمريكي ملموس على الأرض العراقية.ونتيجة لما أصاب العراق من خراب شامل وتمزق الدولة وانهيار مؤسساتها بالكامل بعد الغزو، اشتعلت الصراعات الطائفية وضعفت بنية الدولة، حتى اجتاح تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) مساحات واسعة من الأراضي العراقية. ومع بروز هذا التنظيم، عادت الولايات المتحدة الأمريكية مجددًا لتتصدّر تحالفًا دوليًا ضم أكثر من ثمانين دولة، بزعم أنها جاءت لدعم الحكومة العراقية في محاولة لاستعادة الاستقرار وبسط نفوذ الدولة على كامل أراضيها.بعد إعلان النصر على تنظيم “الدولة الإسلامية” عام 2017، تبدّل الطابع الميداني لوجود قوات التحالف الدولي في العراق، إذ انتهت مهامها القتالية رسميًا، ليُعاد توصيف وجودها تحت عناوين “الدعم اللوجستي” و”الاستشارة والتدريب”، وذلك بناءً على طلبٍ من الحكومة العراقية. وبذلك استمر وجود القوات الأمريكية داخل البلاد، متمركزةً في عددٍ من القواعد العسكرية المعروفة.وفي عام 2024، شهد مجلس النواب العراقي جلسة مخصصة لمناقشة مسألة انسحاب القوات الأجنبية، غير أنّ النصاب القانوني لم يكتمل، مما حال دون صدور قرار حاسم بشأنها. وفي العام ذاته، قام رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، التقى خلالها نظيره الأمريكي، حيث شدّد الجانبان على ضرورة الانتقال من مرحلة الوجود العسكري إلى مرحلة الشراكة الكاملة، وفقًا لاتفاقية الإطار الاستراتيجي المبرمة بين البلدين.ووفقًا لما نقلته المصادر، فقد تمخّضت المفاوضات الثنائية عن اتفاقٍ مبدئي يقضي بخروج المجموعة الأولى من قوات التحالف في سبتمبر 2025، تليها المجموعة الثانية في الشهر نفسه من عام 2026، في خطوة يُراد لها أن تمهّد لاستعادة العراق سيادته الكاملة على أراضيه، وإنهاء صفحةٍ طويلة من الوجود العسكري الأجنبي على أرضه.وقد أكّد رئيس الوزراء العراقي في أكثر من مناسبة أن حكومته لا تستطيع بسط سيادتها الكاملة على السلاح ما دام الوجود العسكري الأجنبي قائمًا على أرض العراق، مشيرًا إلى أن بقاء الفصائل المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة يشكّل عقبة كبرى أمام استقرار البلاد وبناء مؤسساتها. فالأمن، في جوهره، هو القاعدة الصلبة لأي نهضة، والشرط الأول لكل تنمية حقيقية. غير أن المشهد العراقي ما زال معقّدًا ومفتوحًا على اختراقاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ متشابكة، تبدأ من الانقسام السياسي الداخلي، وتمرّ بالتوغّل التركي في الشمال، ولا تنتهي عند الهجمات الإرهابية المتكرّرة، في ظل غياب منظومات دفاعٍ جويٍّ متقدّمة تُقيّدها اعتباراتٌ سياسية وإقليمية متشابكة.ويكاد الخبراء يتفقون على أن العراق تحوّل إلى ساحة تنافس حاد بين القوى الكبرى، جعلت منه ميدانًا لتصفية الحسابات الدولية. قبل عام 2003، كان العراق سيد أجوائه وحدوده، لكن الغزو الأمريكي قلب موازين السيادة وأطلق سلسلة من التدخلات العسكرية والسياسية التي أضعفت القرار الوطني. لم يمنع التحالف الدولي الاعتداءات التركية المتكررة، ولا القصف الذي طال بين حين وآخر مناطق من إقليم كردستان. وهكذا، أصبح الوجود الأجنبي أحد أبرز أسباب اضطراب الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي في البلاد، مع تعطيل فرص الاستقرار وبناء مؤسسات الدولة القوية.إن الشعب العراقي، المرهق من الحروب والتقلبات، يعيش اليوم بين الخوف والريبة، يخشى كل خطوة غامضة، وكل قرار لا يعكس إرادته الحرة، بعدما باتت قوى مسلحة وغير مؤهلة للحكم تفرض سلطتها بقوة السلاح. في الوقت نفسه، تتنازع دول الجوار والغرب النفوذ على أرضه وثرواته، مما يضاعف من صعوبة استعادة الاستقرار. ومع تصاعد المواجهات بين فصائل المقاومة والقوات الأمريكية، تجد الحكومة نفسها في موقف دقيق بين واجب حماية السيادة ومتطلبات التزاماتها الدولية. وقد دفعها هذا إلى تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن ضد واشنطن، واستدعاء القائم بالأعمال الأمريكي احتجاجًا على ما وصفته “بالعمل العدواني الجديد”، فيما أعلن الجيش العراقي أن استمرار هذه الهجمات يهدد الأمن الوطني ويجعل بقاء قوات التحالف عاملَ توتر دائمًا في البلاد.لقد أثبتت التجربة أن استمرار وجود القوات الأجنبية، حتى لو كان بطلب رسمي من بغداد، ينتقص من سيادة العراق ويقيّد استقلال قراره الأمني. فالدعم الأمريكي في مجالات التدريب والاستخبارات يجعل البلاد رهينةً للاعتماد الخارجي، ويمنح واشنطن نفوذًا واسعًا على القرار الوطني، بينما تظل السيطرة الفعلية على الأجواء والمعلومات الاستخباراتية بيدها. هذا الواقع يمنح بعض الفصائل التابعة لدول أخرى ذريعةً للاستمرار تحت شعار “مقاومة الاحتلال”، فيتحول العراق إلى ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين بدل أن يكون وطنًا موحدًا لقراره ومصيره.وبعد أكثر من عشرين عامًا على الغزو، لا يزال العراق يعاني من انتقاص سيادته وتراجع هيبته في أعين مواطنيه والعالم العربي، في وقت تتطلع فيه الأمة إلى عودته قويًا، سيدًا على أرضه وقراره، قادرًا على بناء دولة مستقلة تنتمي إلى مستقبلها لا إلى صراعات الآخرين.إن استعادة سيادة الدولة العراقية ليست حدثًا لحظيًا، بل مسارًا طويلًا وشاقًا يتطلب إرادة وطنية صادقة وإجماعًا سياسيًا جامعًا.تبدأ الخطوة الأولى بحوارٍ وطني شامل يجمع القوى الرئيسة في المشهد العراقي – من المكوّن الشيعي والسني والكردي، مرورًا بممثلي المجتمع المدني – لوضع رؤية موحدة لهدف السيادة، وصياغة خارطة طريق واضحة وجدولٍ زمني واقعي لاستعادة القرار الوطني المستقل، ضمن إطار قانوني وسياسي منظم يُنظّم وجود أي قوات أجنبية على الأرض العراقية.ويجب أن يُتوَّج هذا الحوار بقرارٍ برلماني صريح يحدّد طبيعة ومدة بقاء أي قوات تدريبية أو استشارية، وصلاحياتها في استخدام القواعد العسكرية أو الأجواء العراقية، مع الالتزام بجدولٍ زمني دقيق لإنهاء وجودها تدريجيًا.كما أن الطريق إلى السيادة يمر عبر إصلاح شامل لقطاع الأمن والدفاع، بإعادة هيكلة مؤسسات الجيش والشرطة والاستخبارات على أسس احترافية ووطنية، ودمج القوى المسلحة غير النظامية ضمن منظومة الدولة الرسمية، لتتحول من أدوات نفوذٍ فصائلي إلى قوة وطنية موحّدة تحفظ أمن العراق وسيادته.ولا تقل أهمية عن ذلك إجراءاتُ تأمين الحدود وتحديث منظومات المراقبة والتعاون مع دول الجوار لمنع تسلل الجماعات المسلحة، إلى جانب إطلاق دبلوماسية متوازنة تعتمد الشفافية والانفتاح، وتعمل على تحييد العراق عن محاور الصراع الإقليمي والدولي.إن على الدولة أن توضّح، للداخل والخارج معًا، أن سعيها نحو استعادة سيادتها ليس تحديًا لأحد، بل دفاعًا عن كرامة وطنها. فبناء دولة قوية ومستقلة لا يعزز الاستقرار الداخلي فحسب، بل يرسخ الأمن الإقليمي أيضًا، ويضع حدًّا لتدخلات الآخرين، ويثبت أن القرار الوطني هو المرجع الوحيد الذي يحدد مستقبل العراق وسياساته.فالسيادة لا تتحقق بالشعارات، بل بتكاتف الجهود الوطنية والإقليمية والدولية، حتى يستعيد العراق كامل قراره وأمنه ومكانته كدولة ذات سيادة حقيقية على أرضها وسمائها وقرارها.فليكن الطريق طويلًا، ما دام يسير بالعراق نحو فجرٍ لا تظلّله البنادق الأجنبية، ولا تمزّقه رايات الولاءات المتنازعة. فحين تستعيد الدولة ثقتها بنفسها، سيعود الوطن سيدًا كما كان، وتُرفع راية العراق خفّاقة فوق أرضٍ حرّةٍ وسماءٍ آمنةٍ، تروي للأجيال القادمة حكاية وطنٍ قاوم حتى استعاد نفسه.

المشـاهدات 44   تاريخ الإضافـة 02/12/2025   رقم المحتوى 68633
أضف تقييـم