إدانة الحرب والقبح
في رواية (وكر السلمان)![]() |
| إدانة الحرب والقبح في رواية (وكر السلمان) |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص :
د. سمير الخليل تتميز رواية (وكر السلمان) للروائي (شلال عنوز) بتعدّد مستويات السرد وتنوّع الدلالات وتعدّد الشخصيّات على وفق صياغة سردية تمزج التاريخي باليومي والماضي بالحاضر، وترصد الواقع المأزوم والملتبس وتتوغّل في وصف وقائع الحرب والتناقضات والمفارقات الاجتماعية، وعلى الرغم من كثرة البؤر والمنظورات السرديّة، وتعدّد الحكايات المضمّنة والأحداث غير أنها قدّمت بنية متماسكة ركّزت على رصد تحوّلات الواقع الاجتماعي والتاريخي من خلال تقديم سردي للشخصيّة المركزيّة والرئيسة المتمثلّة بشخصيّة (نعمان) الذي هو محور الأحداث والوقائع والتناقضات. وقد ارتكزت البنية السردية على السرد الموضوعي بصيغة السارد العليم لكنّها أضاءت الفضاء بإضاءات مهمة والتعمق في وصف وملاحقة وتقديم الشخصيّات الرئيسة مثل (نعمان) و (سناء) و(ناصر) والشخصيّات الثانوية التي عمّقت البنية السرديّة الروائية، وقدّمت وقائع ترفد البؤرة المركزيّة. ومن الظواهر الفنيّة ما يرتبط بمزج السرد بومضات أو مقولات في الفكر أو علم النفس، أو تحليل الواقع السياسي، وتقديم صورة تفصيلية عن أعوام الحرب العراقية الإيرانيّة، ولعلّ جوهر أو قصديّة الخطاب الروائي تكمن كلياً في إدانة القبح وافرازات الحرب الوحشيّة وإدانة العنف والجريمة والقتل، لاسيما تحوّل شخصيّة (نعمان) من رجل مسالم إلى مجرم محترف يتّخذ من نفق مظلم وكراً له في ناحية السلمان الواقعة في أطراف محافظة المثنّى (السماوة)، ولعلّ ذكر المكان الحقيقي أسلوب فنّي في جعل الرواية أكثر واقعية واقناعاً، ذلك الوكر الذي تحوّل إلى مسرح لقتل الضحايا والفتك بهم، نتيجة لعارض واضطراب ذهاني حوّله إلى قاتل وسفّاح وشخصيّة سايكوباثية، وتعود عقدة القتل وممارسة الإجرام عند (نعمان) وقصديته بإنشاء وكر الموت إلى عقدة نفسية عميقة ومدمرّة سببها الحرب حين تعرّض للإصابة في إحدى المعارك وأصيب عضوه الذكري ممّا جعله يفقد رجولته وشبقه. ولابد من تناول وتفكيك عتبة العنوان بوصفه النص الموازي أو المفتاح التأويلي، فالعنوان (وكر السلمان) يحيل إلى المكان وإلى الوكر الذي شهد قتل ضحايا (نعمان) البريئة، وهو يحز رؤوسهم بسكينة ويحيلهم إلى جثث وبقايا من دون مراعاة لطبيعة العلاقة التي تربطه بهم، فقد تحوّل إلى (دراكولا) سفّاح، وإلى كائن سادي يتلّذذ برؤية الدماء وصرخات الضحايا بين يديه، واعتاد أن يستدرجهم إلى وكره للقضاء عليهم بكلّ برود، فالشعور المتعاظم بالإحباط والسوداوية ومركّب النقص قادته هذه العوامل إلى أن يكون قاتلاً متمرّساً محترفاً يجد لذة في قتل الآخرين وموتهم، فالوكر يحيل الى الرعب والموت والنفق المظلم، و(السلمان) يشير إلى مكان واقعي بعيد على أطراف الحدود العراقيّة عند مدينة السماوة، لكنّ الرواية ظلّت تنسج بنيتها ووقائعها السردية لسرد الأحداث التي وقعت في بغداد أيضاً لاسيما أيام دراسة (نعمان) في الكليّة في بغداد، وأحداث ووقائع الحرب في الجبهات ثم أحداث القتل واستدراج الضحايا إلى وكره في (السلمان)، ويمكن الاستدلال على قصديّة الرواية وموجّهات خطابها من خلال عتبة الإهداء الذي ينص على إدانة الحرب: "إلى ضحايا الحرب، رجالاً ونساءً واطفالاً، إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معاً، إلى المفقودين والأسرى، إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم، إلى كلّ الذين اكتووا بنارها، إلى الإنسانية المعذّبة بسبب حماقات مشعليها، أهديهم روايتي هذه لتكون شاهدة على دموية الحرب وآثارها ودورها الخطير في تعاسة البشريّة وشيوع الجريمة في الأرض...". (الرواية: 5). وفي الصفحة الأولى من عتبة الاستهلال بوصفها البؤرة التي تضيء السرد أفقياً وعمودياً نلحظ توصيفاً للشخصية المحورية (نعمان) عبر خصائص الشخصيّة السايكوباثية والساديّة يقول الراوي: "كل ما في رأسه مهرجانات من رعب لا يقوى على مقاومتها، هو امتهن القتل، أحد قتلاه يوم أمس صديقه (ناظم) الذي أنقذه من الموت المحقّق في حرب أكلت كلّ أمانيه، ذلك الشاب الوديع ابن الثامنة والعشرين ربّما، لا ينسى أبداً يوم تعرّف عليه لأول مرّة في ساحة سعد في البصرة حين قال له بعد أن سلّم عليه وهو يضع حقيبته أرضاً:
لكن (ناظم) لم يمت في الحرب بل اقتاده صديقه (نعمان) إلى وكر الموت ليحز عنقه بالسكين وترك زوجته وأطفاله في معترك اليتم: "ثم اقترب منه نعمان وطعنه في رقبته، فقطع أوداجه وتركه ميّتاً ومخلفاً وراءه زوجة أرملة ويتيمين تلعب بهما أقدار الدنيا والمزيد من الأحلام المذبوحة، في كثير من الأحيان يتبادر إل ذهنه أنّ هذا النفق الشيطاني المهجور قد يكون مسحوراً ويحرّك فيه شهوة القتل، وربّما هو مقتنع في قرارة نفسه أنّ هناك مناطق من هذه الأرض الواسعة تستمريء طعم الدم، ورائحة الفناء ففي هذه المنطقة يوجد سجن (نقرة السلمان) الذي حفر اسمه السيء والممقوت في ذاكرة العراقيين....". (الرواية: 17- 18). نلحظ في هذا المقطع السردي إحالة أو مضمر وإشارة ضمنية ترتبط بالذاكرة والواقع التاريخي والسياسي، وكأنّ وكر (نعمان) هو رمز أو امتداد للإعدامات والقتل والتعذيب الذي عُرف به سجن (نقرة السلمان) الذي يمثّل علامة على الصراع السياسي بين الأحزاب وعشاق السلطة ومتمرّسي العنف والقتل وإزاحة الآخر عن النفوذ ومغانم التسلّط، والرواية قدّمت ضمناً قراءة أو تحليلاً سايكولوجيّاً للشخصيّة الشاذّة والمركّبة المتمثلّة بشخصيّة (نعمان) والعوامل الاجتماعية والسياسية والمكانيّة والذاتية التي أسهمت في تكوين شخصيّته الدموية، واحترافه وتلذّذه بالقتل، ومنها طبيعة المكان البعيد وعقدة الهامش والمركز وتأثيرات الحرب العبثية التي خاض غمارها، والإحباط العاطفي مع حبيبته (سناء) وتعرّضه إلى الإصابة التي أحالت نشاطه البيولوجي إلى العطب والانطفاء، وهو نفسه يتأمل الحالة التي وصل إليها، ويحدث نوع من المراجعة والتفكير بالواقع الذي يعيشه وأصبح خارج السلوك السوي، "ما زال يتذكّر قول استاذ الإجرام في كلّيته عندما قال: انقسم علماء النفس بآرائهم حول هذا الموضوع، بعضهم قال إنّها عامل جيني ووراثي والبعض الآخر قال هو: خلل عقلي، وآخرون أجمعوا على أنها مران لسلوك منحرف أنتج عادة لا يمكن تخطّيها...". (الرواية: 32)، وطبقاً لهذا المنحى فإنّ (نعمان) أصيب بلوثه سايكولوجية وذهانية أدّت به إلى الوصول لحالة إدمان القتل الخالي من موضوعة الحصول على المال من ضحاياه، أي أن شكل الجريمة يكشف أنه إجرام من أجل الإجرام، يعكس حالة من الشعور بالنقص ونوعاً من الانتقام الذاتي وهذا يحيل إلى أزمة مستفحلة وقاسية تعيشها الشخصيّة وتعكس أيضاً أزمة وجوديّة وقيميّة بين الذات والآخر، والذات والواقع. وبذلك يمكن الإشارة إلى أن الرواية تنطوي على البعد السايكولوجي والتحليلي في وصف ودلالة السلوك الإجرامي لشخصيّة نعمان مع الإشارة المركزية المهمّة التي تؤكّد أن الإصابة الجسدية وعنف ووحشية وعبثية الحرب هي العامل الذي أجّجّ بأعماقه روح الإجرام وشهوة القتل والبحث عن الضحايا ولم يستطع أن يستوعب أو يتفاعل مع مجتمع تعرّض إلى هذه الانعطافات والعذابات والانكسارات، وبذلك تكون الرواية من خلال شذوذ الشخصيّة (نعمان) كانت دليلاً وبرهاناً وإحالة كاشفة ومضمرة بأن الحرب هي التي تنتج الشخصيّات السلبيّة والقلقة وهي التي تدمّر الذات والمنظومة الاجتماعية، والقيم المستقرّة والمتوارثة. ووفقاً لهذه المعطيات العيانية والإحالية فإن الرواية تتعمّق في نقد الحرب، ونبذ وحشيتها ورفض وقائعها البغيضة ومصائرها المقيتة، وتواجهنا من الظواهر الفنية في الرواية قصدية الكاتب في زجّ نصوص وتحليلات فكرية وتاريخية تدعم بنية السرد، وقد تكون ملمحاً من ملامح جعل الوقائع مقنعة أو زجّ المعرفي في السردي، ويكثر مثل هذا المقطع الفكري، الذي يزج في حوارات الشخصيّات أو في معزل منها: "قال نعمان مشاركاً: تحضرني مقولة لفلاديمير بارتول حيث يقول: كلّما انخفض وعي الجماعة كلّما عظمت حماسة من يحرّكها، لهذا فإنّي أقسّم البشريّة إلى معسكرين متمايزين فعلاً، والقلّة من هؤلاء الذين يعلمون ما يحدث من جهة والعدد الغفير من هؤلاء الذين لا يفقهون شيئاً من جهة أخرى، لذا نرى هذه الحرب وقودها الكثرة من الذين لا يفقهون شيئاً، ومنوّمون مغناطيسياً فهم يزّجون إلى ساحات الموت ليدافعوا عن أناس هم وحدهم يعرفون لماذا هذه الحرب وإلى أين، وفي أي وقت تنتهي...". (الرواية: 80). إنَّ مثل هذا المقطع يسرد فيه الكاتب بعض الأحداث التاريخية وبعض أحداث الحرب، ممّا يجعل الرواية تمتلك أبعاداً معرفيّة وفكرية تزيد من قيمة المحمولات السرديّة. لم يتمركز السرد على المتن الحكائي ووصف الشخصيّات فحسب، إنّما يتحدث عن وقائع تاريخية ارتبطت بخلفيات الحرب وشرح أبعاد اتفاقية الجزائر التي سبقت الحرب: "اتفاقية الجزائر وقّعت بين البلدين عام 1975م فلقد ألغاها العراق من طرف واحد، ونحن نعرف كما درسناه في القانون الدولي: إنَّ المعاهدة بين طرفين دوليين تكون ملزمة لهما ولا يجوز الغاؤها من طرف واحد إلاّ بإرادة الطرفين". (الرواية: 81)، ومن الظواهر الفنية الأخرى حضور وتفعيل وظيفة الحوار الثقافي بين الشخصيّات، وقد احتل جزءاً كبيراً من بنيتها، مما يدلّ على أن الكاتب أراد من خلال عمله الروائي أن يقدّم مشهدية بانورامية وينقل ما يدور بين الناس من أفكار واختلافات في وجهة النظر من خلال كثير من الميادين، وشؤون الحياة المختلفة ويمكن القول إنها رواية حواريّة لكثرة وعمق هذه المحاورات المباشرة، وهو نوع من النسق الواقعي الذي ينقل الوقائع والأفكار لكي تكون الصورة الكلّية مؤطرة بما هو حقيقي وتقديم النسق الواقعي بلغته وتباين التوّجهات للشخصيّات التي عاصرت الأحداث، وتفاعلت معها وقدّمت وجهة نظرها الأحادية حول جوهر وطبيعة الأحداث آنذاك، وقد أفردت الرواية مساحة لشخصيتين مهمّتين ورئيسيتين هما شخصيّة (سناء) حبيبة وزميلة (نعمان) في الكلّية التي أصبحت خطيبته بعد ذلك وعاشا قصّة حب أيام الدراسة لكنّه في النهاية يستدرجها إلى وكره الدموي ويقتلها، وحين تختفي ويمر على غيابها زمن يتحرك أهلها بحثاً عنها ويتوصلون إلى الحقيقة حين التحقيق، لأنها كانت معه قبل الاختفاء وأخذها إلى وكره. وقدّم أهلها دعوى "يتهمون فيها خطيبها نعمان بذلك ويذكرون السبب بأنّه أخفى أمر اصابته ببتر عضوه الذكري عنهم وعن خطيبته، وانقطاعه عن التواصل معهم، ومع كل أصدقائهما، وأن دائرة الشك تدور حوله...". (الرواية: 175)، وتتكرر الجريمة التي تحتل مساحة من الرواية حين يقرّر (نعمان) قتل صديق عمره (ناصر) بالوسيلة والطريقة الوحشية التي أدمنها واعتاد عليها: "قال له نعمان وهو يلعب بشفرة سكينه – أنت تطلب المستحيل، فلا يمكنك الخروج من هنا بعد أن دخلته برجليك. قال له وهو يشيح بوجهه عنه: إنها شهوة القتل التي تتملكني فمنذ وطأت قدماي هذا الوكر الخبيث ولا شيء يطرق تفكيري سواها..." (الرواية: 177). ونستخلص ممّا تقدّم بأنّ الرواية اتسمت بتنوع مستويات الأداء وتعدّد الأبعاد، وقدمت مضموناً ثرياً في إدانة القبح والحرب والسلوك المنحرف. |
| المشـاهدات 20 تاريخ الإضافـة 13/12/2025 رقم المحتوى 68845 |
أخبار مشـابهة![]() |
(الحرب جميلة أحيانًا)
|
![]() |
في رواية الكاتبة البحرينية جليلة السيد " مدن الحليب والثلج "
الم التشظي رسالة الأنثى المحاربة تحت قسوة القانون الغربي |
![]() |
معيارية الوعي الفني والسردي في رواية( نصف السماء) للشاعر الراحل ارشد توفيق |
![]() |
الصراع النفسي في رواية (امرأة الظل) للروائي عبد الرضا صالح محمد / العراق |
مسؤول أمريكي يثمن جهود العراق في الحرب ضد الإرهاب
مبعوث ترامب : نقف مع العراق وهو يمضي قدما نحو مستقبل قوي ومستقل |
توقيـت بغداد








