عن النقد بوصفه فعلاً إنسانياً خالصاً
د. عبد الرضا علي: لا أؤمن بوجود حقيقةٍ نقديَّةٍ مطلقةٍ للنصِّ، لأنَّ النقدَ الإبداعيَّ حمّالُ أوجه![]() |
| عن النقد بوصفه فعلاً إنسانياً خالصاً د. عبد الرضا علي: لا أؤمن بوجود حقيقةٍ نقديَّةٍ مطلقةٍ للنصِّ، لأنَّ النقدَ الإبداعيَّ حمّالُ أوجه |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص : حاوره: أيهم محمود العبّاد يقف الناقد العراقي د. عبد الرضا علي في طليعة الأسماء التي رسّخت حضورها النقدي في المشهدين الأدبيين العراقي والعربي، عبر مشروع ينهض على مساءلة النص مرة بعد مرة، بوصفه كياناً جمالياً لا ينفصل عن سياقه الثقافي أو تحولاته الاجتماعية. وهذه التجربة نابعة من وعي نقدي يوقن أن النص الأدبي لا يُقرأ كأثر لغوي فقط، بل هو فعل معرفي تشتبك فيه اللغة مع التخييل والمرجعيات الفكرية. ورغم انفتاحه على المناهج الحديثة واتجاهاتها المختلفة، فقد بقي حريصاً على منح النص حريته الكاملة في التجلّي ومقاومة القراءة التعسفية والتفسير الأحادي. نتوقف في عالم د. عبد الرضا علي، في محاولة للاقتراب أكثر من خبرته النقدية وتعامله مع بنية النص، ولنقل: من رؤيته للمفاهيم النقدية التي صاغت حضوراً متفرداً لمنهجه في التحليل، فتجربة ضيفنا لا تكتفي بوضع اشتراطات جديدة للقراءة، بل تعيد التفكير في وظيفة الناقد ذاته، انطلاقاً من شراكته في كشف طاقة النص وقدرته على إنتاج التعددية في الدلالات والمعاني. * كيف تنظر إلى جوهر العملية النقدية قديماً وحديثاً؟ أهي قراءة في النص أم حوار مع الوعي الجمالي الذي ينتجه ذلك النص؟ - العمليَّةُ النقديَّة قديماً صاحبتْ الإبداعَ (وإنْ بدتْ تاليةً له) لكنها انفصلتْ عنه حين اكتملتْ التجربةُ الإبداعيَّةُ لدى مبدِعِها صاحبِ النصِّ، سواءٌ أكانت شعريَّةً أم نثريَّة، لأنَّ النقدَ في بدء تكوينهِ (قديماً) لم يكُنْ ليتجاوزَ الاستحسان، أو الاستهجان، والرفض دُونَ ذكرِ الأسبابِ. أي أنّها كانت خاليةً من أيِّ تعليلٍ منطقيٍّ، لأنَّها تقومُ على الانطباعِ الذاتي. * بعد عقود طويلة زاولت فيها النقد تنظيراً وتطبيقاً، هل تعُدّ النقدَ علمًا له أدواته الدقيقة، أم أنه يظل فعلًا تأويليًا تحكمه الذات والرؤية الفردية؟ - اختلفَ النقَّادُ في رؤيتِهم للنقدِ، فبعضُهم يرى أنَّ النقدَ علمٌ، ودليلُهُ في ذلك أنه ارتبطَ (قديماً) عند اليونان بالفلسفة، كما أنَّ بعضهم قد رأى ولادته كانت في حضنِ الاعتزالِ ، لأنَّ الاعتزالَ على وفقِ رؤيتِهم يقومُ على الاحتكام إلى العقلِ الذي يهدئ من جموحِ العاطفةِ والعصبيَّة. أمَّا رؤيتي فتتلخَّص في أنَّ النقدَ نشاطٌ إنسانيٌّ، أي أنه أدبٌ وصفيٌّ ، وليس مدحاً ، ولا قدحاً، إنَّما يقومُ على خدمةِ أطرافِ العمليَّةِ الإبداعيَّةِ كلِّها ، وهذه الأطرافُ هي : القارئ ، والمبدع، والأثر الإبداعي . وكان منهجي تكامليَّاً في جميعِ دراساتي النقديَّةِ ، وقد توضَّحتْ في التحليلِ، والتفسيرِ، والحكم. * ما موقع الفلسفة في مشروعك النقدي؟ وهل يمكن للنقد الأدبي أن يظل حيًّا من دون عمق فلسفي يؤسس تأملاته؟ - القلق الوجودي الذي تعيشهُ الذاتُ المبدعةُ سواءٌ أكانت ذاتاً شعريَّة أم سرديَّة أم فنيَّة هو جوهرُ التعمُّقِ في فلسفتِها ، لذلك هي لا تغيبُ عنِّي عند تحليلي للنصوصِ ، وهذا الأمر يشكل مع ذاتي الناقدةِ إلى ما يخدم النصَّ لترصينِ الرؤيةِ النقديَّةِ التي أنطلِقُ منها ، علماً أنَّ قراءاتي (السابقة) لآراءِ الفلاسفة القدماء : كسقراط ، وأفلاطون وغيرهما ، وما أثارهُ علماء الجمال ، وما كان من آراء فلسفيَّة إسلاميَّة أثارها الاعتزال (كلها) تقرِّبُ مشروعي النقدي من الرؤيةِ الموضوعيَّة في تحقيقِ الهدفِ الأسمى ، وهوَ تأصيل القولِ النقدي الرصين دُونَ تردُّدٍ أو محاباةٍ ، وهوَ كما أظنُّ لا يخلو من نظرةٍ تتكئُ على خزينٍ فلسفيٍّ عميق. * كيف تفسر العلاقة بين اللغة الشعرية والواقع؟ هل تمثل اللغة وسيلة لقول الواقع أم وسيلة لتجاوزه نحو مجاز الوجود؟ - اللغةُ الشعريَّةُ لغة موحية بالكثير من المسكوتِ عنهُ في عالمِ الواقعِ المعيشِ وهي وإنْ كانت وسيلة للتعبيرِ عن الذاتِ الشاعرةِ في حالاتِها المختلفة، فإنَّها يجبُ أنْ تكونَ سليمةَ التكوينِ، ورصينةَ البناءِ، وواضحة القصدِ كي تصلَ إلى مستقبِلها (بكسرِ الباء) القارئِ من غيرِ تلكؤٍ يؤدِّي إلى إبعادِهِ عن سبرِ غورِها. فضلاً عن ضرورةِ الابتعادِ عن الغموضِ المفتعلِ في صياغةِ الإدهاش. وهذا لا يتأتَّى من غيرِ أنْ يكونَ الشاعرُ ذا ثقافةٍ موسوعيَّةٍ في استخدامهِ للتقنياتِ الفنيَّةِ : كالحوارِ الداخليِّ (المونولوج الدرامي) والتداعي الحرِّ ، والمحاورةِ الخارجيَّة ، فضلاً عن توظيفِهِ للرموزِ، والأساطيرِ ، وغيرِها (إنْ لَزِمَ السياق) فكُلُها تؤدِّي إلى تجاوزِ الواقعِ المعيش نحوَ مجازِ الوجودِ الذي أثرتموه في سؤالكم الكريم. وهو مجازٌ تدركهُ الذاتُ المبدعةُ الخلَّاقةُ حصراً. * هل تؤمن بوجود "حقيقة" نقدية مطلقة للنص، أم أن كل قراءة هي وجه من وجوه الممكن؟ - عفواً دكتور أيهم … فأنا لستُ من الَّذين يؤمنونَ بوجود ((حقيقةٍ)) نقديَّةٍ مطلقةٍ للنصِّ، لأنَّ النقدَ الإبداعيَّ حمالُ أوجه، ولغةُ التحليلِ، والتفسير ((المعمَّقتينِ)) كثيراً ما تكشفُ عن جوانبَ أُخرى لم يلتفتْ إليها بعضُ الانطباعيينَ من النقَّاد، وعليهِ فإنَّ كلَّ قراءةٍ يمكنُ أنْ تضيفَ وجهاً آخرَ من وجوهِ الممكنِ المحتملة. * في قراءتك للشعر الحديث، كيف تتعامل مع مفهوم (المعنى المراوغ)؟ هل هو علامة على عمق النص أم على انغلاقه؟ - المراوغةُ في الشعرِ سواءٌ أكانتْ في القديمِ ، أم الحديثِ جائزة إذا أدَّتْ إلى غرضٍ فنِّيٍّ يقومُ على الخيالِ السحريِّ في صياغةِ الصورةِ المدهِشة، كذلك إذا أدَّتْ إلى إبعادِ الأذى عن الشاعرِ الذي يرمي إلى حمايةِ نفسهِ من ملاحقةِ الرقيبِ، أو الحاكمِ ، كما فعلَ بدر شاكر السيَّاب في بعضِ توظيفهِ للأساطيرِ القديمة. ففي قصيدتِهِ ((سربروس في بابل)) يتخذ من (كلب الجحيم صاحب الرؤوس الثلاثة) مجالاً لهذه المراوغةِ في التعريضِ بالزعيمِ الوطني عبد الكريم قاسم، ويتخذُ من بابل مراوغته الأخرى في التعريض ببغداد، وهي مراوغة للتخفِّي من الملاحقة ، والنجاة من الرقيب. وقد فعلَ مثل هذه المراوغة مرَّةً أخرى حين هاجم رفاق الأمس بعد الانفصام الحزبي عنهم سنة 1958م، في قصيدته ((رؤيا عام 1956)) ، قد راوغ بالتأريخ ، فجعل رؤياه المختلفة تاريخيَّاً تجنبهُ مهاجمتهم. ومثل هذه المراوغات تنحصرُ في الجانب السياسي ، وليس في الجانب الشرعي التي وردت في بعضِ الآثارِ الشكسبيرية كمسرحيَّةِ (تاجر البندقيّة) ، فهي مراوغةٌ شرعيَّةٌ أنقذت ((پورتيا)) في المحكمةِ لتخليصهِ من الموت للتهرُّبِ من الاتفاق. وكل تلك المراوغات تدل على عمقِ النصِّ ، وثرائهِ ، وليستْ على انغلاقهِ. * ما الذي يمنح النص الشعري خلوده في رأيك؟ البنية الجمالية، أم الطاقة الفكرية الكامنة فيه، أم قدرته على إثارة الأسئلة؟ - هي كل الذي ذكرته دكتور في سؤالكَ الكريمِ … فخلود النصِّ يبدأُ حينَ يجِدُ مُستقبِلُهُ (بكسرِ الباء) ضرورةَ قراءتِه أكثر من مرَّة ، وحينَ يقفُ على ما فيه مِنْ مغايرةٍ ، واختلافٍ عن السائدِ المألوفِ ، فضلاً عمَّا فِيهِ من إعجازٍ بياني في الصياغة ، وما يمكِنُ أنْ يترشَّحَ من ترميزهِ من تأويلٍ يجعل القارئ الذكيَّ يُطمئنُ الذاتَ ، ويكشفُ لها الحجابَ ، بصيغٍ فنيَّةٍ مؤثِّرة. * هل يمكن للنقد أن يكون محايدًا في تعامله مع النصوص، أم أن الناقد – بطريقة ما – يكتب سيرته الفكرية عبر الآخرين؟ - على الناقدِ (بِداءَةً) أنْ يكونَ موضوعيَّاً ، وليسَ محايداً، أو كاتبَاً لسيرتِهِ عبرَ الآخرين … وحينَ نؤكِّدُ على موضوعيَّتِهِ نعني (تحديداً) أنْ يمتَلكَ حَيدَةً علميَّةً ، وأمانةً فكريَّة ، وحَصَافةً حكيمة محْكَمة. أمَّا إِنْ أرادَ كتابةَ سيرَته، أو أجزاءَ منها ، فإنَّ المجالَ مفتوحٌ أمامه ما دامَ يمتلِكُ مقوِّماتِ الكتابة. والمقوِّمات عديدة ، لكنَّ أبرزها ناصية اللغة ، ورجاحة المنطق، و وضوح الأفكارِ، والقدرة على كشفِ ما يستحقُّ أنْ يُعرضَ في السيرة للقارئِ المستفيدِ ، وغيرها من عواملِ إمتاعِ المتلقِّي ، وليس زجَّها عبرَ نقدهِ التحليلي للإبداعِ. * في ظل هيمنة المناهج الحديثة كالتفكيك والسيمياء والتناص، كيف يمكن للناقد أن يوازن بين الأصالة العربية والانفتاح على الفكر الغربي؟ - ... يرغبُ بعضُ المنبهرين بالصِّرعاتِ المتضادَّة (لاسيَّما النفسيَّة منها) في الانسياقِ وراء كلِّ ما يأتي به التفكيرُ الغربي من مناهج نقديَّةٍ دون إمعانِ نظرِهم الثاقبِ فيها ، كما فعلَ بعضُهم بالانسياقِ وراءَ البنيويَّة، والسيميائيَّةِ ، وغيرها. ولعلَّ أوضح أمثلةٍ هي تسارعهم في ما أُشيع من مصطلحات كـ (قصيدة الهايكو الياباني) ، و (الميتا شعر) و (موت المؤلّف). وحينَ انبرى بعضُ النقَّادِ من الأكاديميين العراقيين الذين يؤمنون بالتجديدِ المبنيِّ على أُسسٍ منهجيَّةٍ رصينة إلى خطلِ تلك السياقاتِ ، وفسادِها ، تراجعَ بعضُهم عن تقليدِ تلك الصِرعات بينما بقي آخرون على مواقفِهم احتراساً من أنْ تأخذهم العزَّةُ بالإثم ... وعلى ضوءِ ذلك ، فالنقدُ الأصيلُ هوَ الضمانة الأكيدة على إبعادِ تلكَ الصِّرعاتِ عن هذا المجالِ العلميِّ الحصيف … اعترافاً بالصوابِ ، ورفضاً للتقليدِ الفَجِّ. * هل تجد أن الشعر فقد دوره الوجودي في زمن الصورة، أم أن التحول الجمالي في الوسائط فتح له أفقًا جديدًا للتعبير؟ - عفواً صديقي د. أيهم العباد ، فالشعرُ نبوءةٌ ورؤيا ، وليس فقط كلاماً موقَّعاً ، ولن يفقدَ دورَهُ الوجودي في زمنِ الصورةِ، لأنهُ بوحُ الذاتِ المرهفة عن أعماقِها ، ونشيدها الداخليّ لإظهارِ ما كان مسكوتاً عنه في عالمِها المضمر ، أو في سياقاتِها الأُخرى. وإذا كانت اللوحةُ تعبيراً جماليَّاً ، فهيَ أيضاً تشكِّلُ جانباً وجدانيَّاً في تصويرِ خيالِ الفنَّانِ التشكيليِّ ، وما في داخلِهِ من انفعالاتٍ روحيَّة ، أو غريزيَّة ، أو طمعاً لإشباعِ حاجةٍ نفسيَّة. كما أنَّ العملَ الدرامي المسرحي هو الآخر يؤدِّي دورَهُ الجمالي في الحياةِ ، كما تؤديه الموسيقى. فالتحوّلُ الجمالي (في جميع تلك الوسائطِ) يكمل بعضه بعضاً في إبعادِ القبحِ عن عالمِنا المعيشِ ، كي تستحسنَهُ النفوسُ السويَّة. * أخيرًا، كيف تلخّص مهمة الناقد في عالم اليوم؟ هل ما زال حارس الذائقة، أم أصبح صانع الأسئلة ومقلق المسلمات؟ - تتلخَّصُ مهمَّةُ النقدِ (كما ألمعنا سابقاً) في كونِهِ عمليَّة متشعِبة تتناولُ الأثرَ الإبداعي سواءٌ أكانَ شعراً ، أم سرداً ، أم فنَّـاً تشكيليَّاً ، أم فنَّـاً موسيقيَّاً ، أم دراميَّاً ، فتُحلِّلُهُ ، وتُظهِرُ فضائله ، وتنبِّهُ إلى عيوبِهِ ، فضلاً عن كونِهِ يخدمُ أطرافَ العمليَّةِ النقديَّةِ برمَّتِها. وهذه الأطرافُ هِيَ : القارئُ ، والمبدعُ ، والأثرُ الإبداعي ، اعتماداً على أهمِّ الأُصولِ الفنيَّة ، والخبرةِ ، و الممارسة ، كما أنَّ على الناقدِ أنْ يكونَ موضوعيَّاً ، وليسَ متزلِّفاً ، أو مدَّاحاً ، وأن يكونَ حكمُه صائباً ، وإلَّا ، فأنَّ أيَّ فسادٍ في رأيهِ قد يؤدِّي إلى نتائجَ وخيمة. |
| المشـاهدات 24 تاريخ الإضافـة 17/12/2025 رقم المحتوى 69004 |
توقيـت بغداد








