صناعة الطاغية
( الجزء الرابع )![]() |
| صناعة الطاغية ( الجزء الرابع ) |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب كتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
في ذروة الحرب العراقية–الإيرانية، حين امتدت المعارك على طول شط العرب والسهول الحدودية، وعجزت المدافع والرصاص عن السيطرة الكاملة على الجبهات، اكتشف النظام حقيقة بسيطة لكنها قاتلة في أثرها: السلاح قد يرهب الجسد، لكنه لا يسيطر على العقول؛ أما الكلمة، فهي التي تستطيع أن تسير بالضمير، وتثبّت الخوف، وتحوّل الموت إلى واجب، والهزيمة إلى سردية يصدقها الجميع.
لكن قبل أن تبدأ الحرب، كان الطاغية بحاجة لتثبيت سلطته داخلياً، فشرع في مرحلة تنقية الحزب والدولة، وأقدم على ما أصبح يعرف بمجزرة قاعة الخلد الشهيرة. في تلك المجزرة، تم تصفية رموز الحزب من الكوادر المتقدمة، الذين كانوا يعرفون حقيقة شخصية الطاغية: رجل زقاقي التربية، بلا شهادة عليا، يفتقر للمعرفة الأكاديمية لكنه يمتلك غريزة سيطرة نادرة. تم تصميم السيناريو بعناية، حيث وُصِف هؤلاء بأنهم خونة ومتعاونون مع النظام السوري، رغم أن النظام السوري نفسه بعثي، والفكر واحد. كانت العملية رسالة مبكرة للجميع: لا مكان للمعرفة أو الخبرة إذا تعارضت مع الولاء المطلق، ولا مجال للتساؤل أو المعارضة، حتى من داخل الحزب نفسه.
وفي الوقت نفسه، بدأ الطاغية تمكين عائلته بشكل منهجي، فوضع أخوته وأبنائه في مناصب حساسة وكبيرة في الدولة. تحول العراق تدريجياً من دولة يقودها حزب إلى دولة تقودها عائلة، حيث الولاء الدموي صار قاعدة الحكم، والسلطة مركزة في محيط شخصي صغير، بينما الكل الآخر خاضع لتوجيهات المركز الواحد.
مع اشتداد القتال على الحدود، أدركت القيادة أن السيطرة على الروح المعنوية للجنود لا تقل أهمية عن السيطرة على الميدان. لذلك، لم يكن بعض المدنيين يُستدعون إلى الجبهة لحمل السلاح، بل ليكونوا أعين النظام، يراقبون المزاج العام، ويستشعرون هموم الجنود تحت وابل الرصاص، ثم يعودون لتصوغ كل ما رصدوه بلغة يُمكن للنظام ابتلاعها. الحضور بين الخنادق كان طقساً بحد ذاته: أن ترى الجنود عن قرب، أن تسمع تذمرهم المكتوم، أن تلتقط صمتهم الطويل، ثم تعود لتحوّل الملاحظات إلى أداة معنوية تُديرها القيادة. وأحياناً، لم يكن المطلوب مجرد تقرير، بل وفاء ذكي، القدرة على تحويل الرصد الميداني إلى قوة معنوية تدعم أسطورة الطاغية.
بقرار واحد، يمكن للمدني أن يتحول إلى جزء من المؤسسة العسكرية، يحمل رتبة تمنحه الهيبة وتُسهّل مرور قراراته وسط القادة والضباط. لم تكن الرتبة مجرد شارة، بل أداة لإقناع الجميع أن هذا الشخص صار جزءاً من النظام، وأن كلمته لا تُناقش بل تُنفذ.
وهكذا دخل التوجيه السياسي مرحلة جديدة من السيطرة. لم يعد مجرد رفع معنويات الجنود، بل غرفة عمليات موازية للجبهات، تُدار الحرب بالكلمات: تفسير الهزائم، إعادة تقديم الانسحاب، صياغة الانتصارات الصغيرة كمعجزات، وتحويل كل حدث إلى جزء من سردية أكبر تُثبت ألوية الطاغية، وتحوّل أي تشكيك إلى خيانة محتملة.
مع مرور الوقت، صار من الصعب الفصل بين الحرب بوصفها صراعاً على الأرض، والحرب بوصفها أداة لإعادة إنتاج السلطة. كل شيء صار يُدار بعقلية الجبهة: الاقتصاد، الثقافة، المجتمع، وحتى الصمت الطويل. الدولة التي تعيش سنوات الحرب تتعلم كيف تحكم كل تجربة شخصية وكأنها جزء من خطة معركة مستمرة.
الطاغية فهم هذه القاعدة مبكراً . لم يكتفِ بالسيطرة على الإعلام أو التوجيه السياسي، بل دمج الأسرة في قلب الحكم، وجعل الكلمة سلاحاً، والرواية أداة، وكل من حوله، من ضابط إلى كاتب، جزءاً من آلة واحدة لإدامة الهيبة والخوف. كل حضور ميداني، كل رتبة مُمنوحة، وكل تقرير معنوي، كان حلقة في سلسلة معقدة من السيطرة الشاملة، تجعل السلطة أقوى من أي رصاصة أو بندقية.
وهكذا تكتمل صورة صناعة الطاغية: ليس بوصفه فرداً متسلطاً فقط، بل كنظام قادر على إعادة إنتاج نفسه، وتحويل الحرب من حدث استثنائي إلى أسلوب حياة. الطاغية لا يعيش على الخوف وحده، بل على إدارة الخوف، وتنظيمه، وتوزيعه بذكاء، حتى يصبح الجميع، عن اقتناع أو رغماً عنهم، جزءاً من أسطورته.
في النهاية، الحكاية لا تنتهي بانتهاء الحرب، بل تبدأ الأسئلة الحقيقية: كيف صدّقنا الأسطورة؟ وكيف أصبحت الحرب، بالكلمة، والرتبة، والأسرة، والخوف، أداة لصناعة الطاغية؟ |
| المشـاهدات 38 تاريخ الإضافـة 25/12/2025 رقم المحتوى 69298 |
توقيـت بغداد









