الأحد 2025/12/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
التربية والمتغيرات الثقافية والثورة الرقمية
التربية والمتغيرات الثقافية والثورة الرقمية
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. عصام البرّام
النـص :

 

 

 

يشهد عالمنا المعاصر تحولات ثقافية متسارعة لم يعرفها الإنسان في أي حقبة سابقة، بفعل الثورة الرقمية، واتساع فضاءات التواصل، وتداخل الهويات، وتغير أنماط العيش والعمل والمعرفة. هذه التحولات لم تعد محصورة في النخب أو المدن الكبرى، بل تسربت إلى تفاصيل الحياة اليومية للأسرة والمدرسة والشارع، وأثرت في منظومة القيم والسلوكيات والتوقعات. وفي خضم هذا المشهد المتغير، تبرز التربية بوصفها السؤال المركزي: أي تربية نريد لأبنائنا؟ وأي إنسان نسعى إلى بنائه ليعيش بوعي واتزان في مجتمع تتبدل معاييره الثقافية باستمرار؟إن التربية في معناها العميق ليست مجرد نقل للمعرفة أو تلقين للمعلومات، بل هي عملية بناء إنساني شامل، تصوغ الشخصية، وتغرس القيم، وتنمي القدرة على الفهم والنقد والاختيار. وحين يتغير المجتمع ثقافيًا، لا يمكن للتربية أن تبقى جامدة أو معزولة عن السياق، كما لا يجوز لها في الوقت ذاته أن تذوب وتفقد بوصلتها. التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين الثبات والتجدد، بين الأصالة والانفتاح، وبين الهوية الوطنية والإنسانية المشتركة.لقد أفرز التغير الثقافي واقعًا تتعدد فيه المرجعيات، وتتنافس فيه الخطابات، وتتشابك فيه المؤثرات المحلية والعالمية. فالطفل اليوم يتلقى رسائل متناقضة من المدرسة والأسرة ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. وإذا لم تمتلك التربية مشروعًا واضحًا ومتماسكًا، فإنها تتحول إلى ردود أفعال متفرقة، أو إلى تكرار صيغ تقليدية لم تعد قادرة على الإقناع أو التأثير. من هنا تبرز الحاجة إلى تربية واعية بالسياق، ناقدة له، لا منفعلة به ولا منقطعة عنه.التربية التي نحتاجها في مجتمع متغير ثقافيًا هي تربية تُعلي من قيمة الإنسان، وتضع الكرامة الإنسانية في قلب العملية التربوية. فوسط الضغوط الاستهلاكية، وثقافة الصورة، وتسليع العلاقات، يصبح من الضروري ترسيخ معنى الإنسان كغاية لا كوسيلة، وتنمية حس المسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والآخرين. هذه التربية لا تكتفي بالحديث عن القيم بوصفها شعارات، بل تحولها إلى ممارسات يومية داخل المدرسة والأسرة، عبر الحوار، والقدوة، واحترام الاختلاف.كما أن من أهم ملامح التربية المنشودة تنمية التفكير النقدي. ففي زمن تدفق المعلومات، لم تعد المشكلة في قلة المعرفة، بل في كيفية التمييز بين الصحيح والزائف، وبين الرأي والحقيقة، وبين الحرية والفوضى. التربية التي لا تعلم أبناءها كيف يفكرون، بل تكتفي بما تفكر لهم، تتركهم عرضة للانقياد والتطرف والانبهار السطحي. التفكير النقدي هنا لا يعني التشكيك المطلق، بل القدرة على السؤال، والتحليل، وربط الأسباب بالنتائج، واتخاذ المواقف عن وعي.ولا يمكن الحديث عن تربية في مجتمع متغير دون التوقف عند مسألة الهوية. فالانفتاح الثقافي، على أهميته، قد يتحول إلى اغتراب إذا لم يستند إلى جذور راسخة. التربية المطلوبة هي تلك التي تعرّف الناشئة بتاريخهم، ولغتهم، وقيمهم الحضارية، لا بوصفها ماضياً جامداً، بل باعتبارها رصيدًا حيًا يساعدهم على فهم الحاضر وصناعة المستقبل. فالهويّة الواثقة لا تخشى التفاعل مع الآخر، بل تنفتح عليه من موقع الندية والاحترام المتبادل.وفي هذا السياق، تبرز أهمية التربية على المواطنة. فالمجتمع المتغير يحتاج إلى أفراد يدركون حقوقهم وواجباتهم، ويشاركون في الشأن العام، ويحترمون القانون، ويؤمنون بالتنوع داخل الوطن الواحد. التربية على المواطنة لا تنفصل عن التربية الأخلاقية، ولا تقتصر على دروس نظرية، بل تُبنى عبر ممارسة الديمقراطية داخل المؤسسات التعليمية، واحترام الرأي المختلف، والعمل الجماعي، وخدمة المجتمع.كما أن التربية في ظل التحولات الثقافية مطالبة بإعادة النظر في علاقتها بالتكنولوجيا. فالتكنولوجيا لم تعد أداة محايدة، بل أصبحت بيئة يعيش فيها الأبناء ويتشكل وعيهم من خلالها. التربية الواعية لا تكتفي بالتحذير من مخاطر التكنولوجيا ولا بالانبهار بفرصها، بل تعمل على ترشيد استخدامها، وتنمية الكفاءة الرقمية، وتعزيز أخلاقيات التعامل مع الفضاء الرقمي. فالهدف ليس عزل الأبناء عن العالم الرقمي، بل تمكينهم من استخدامه بوعي ومسؤولية.ولا يمكن إغفال دور المعلم في هذا المشروع التربوي. فالمعلم في مجتمع متغير لم يعد ناقل معرفة فحسب، بل موجّهًا وميسرًا وملهمًا. وهو بحاجة إلى تكوين مستمر، ودعم مهني، ومكانة اجتماعية تليق بدوره. فالتربية التي نريدها لا يمكن أن تتحقق بمناهج متطورة ومعلمين مثقلين بالأعباء، أو محرومين من الثقة والتقدير. الاستثمار في المعلم هو استثمار في المستقبل الثقافي للمجتمع.كذلك تظل الأسرة شريكًا أساسيًا في العملية التربوية، مهما تغيرت الظروف. فالتربية لا تبدأ في المدرسة ولا تنتهي فيها. وفي زمن الانشغال وتسارع الإيقاع، تزداد الحاجة إلى وعي أسري يعيد الاعتبار للحوار داخل البيت، ويوازن بين الحزم والاحتواء، ويمنح الأبناء الإحساس بالأمان والانتماء. فالتكامل بين الأسرة والمدرسة هو الضمانة الحقيقية لتربية متوازنة.في المحصلة، فإن السؤال عن أي تربية نريد في مجتمع متغير ثقافيًا هو سؤال عن أي مستقبل نطمح إليه. هل نريد أجيالًا منقطعة عن جذورها، أو خائفة من العالم، أو منسحقة أمام التحولات؟ أم نريد إنسانًا واثقًا بذاته، منفتحًا بعقله، متجذرًا في قيمه، قادرًا على التكيف دون أن يفقد إنسانيته؟ التربية ليست ترفًا فكريًا، بل خيارًا مصيريًا، وكل تأجيل في الإجابة عنه هو ترك للمستقبل ليُصاغ عشوائيًا. إننا بحاجة إلى تربية تُشبه زمننا في حيويته، وتتفوق عليه في إنسانيته.ويزداد هذا التحدي التربوي تعقيدًا حين ندرك أن التغير الثقافي لا يسير في اتجاه واحد، بل يتسم أحيانًا بالتناقض والارتباك. فالمجتمع قد يرفع شعارات الحداثة، بينما تمارس بعض مؤسساته أنماطًا تقليدية في التفكير والإدارة، وقد يدعو إلى الحرية، في حين يضيق بالاختلاف. وهنا تصبح التربية مطالبة ليس فقط بالتكيف مع الواقع، بل بالمساهمة في تصحيحه وتجاوزه. فالتربية الواعية هي التي تملك القدرة على استشراف المستقبل، وإعداد الفرد للتعامل مع ما لم يأتِ بعد، لا الاكتفاء بتفسير ما هو قائم.إننا بحاجة إلى تربية تمنح أبناءنا المرونة النفسية والقدرة على التعايش مع القلق وعدم اليقين، دون أن يفقدوا ثقتهم بأنفسهم أو بمجتمعهم. فالعالم المتغير يفرض مهنًا جديدة، وأنماط حياة مختلفة، وتحديات أخلاقية غير مسبوقة، ولا يمكن مواجهتها بعقول جامدة أو أنماط تفكير موروثة بالكامل. التربية المنشودة هي تلك التي تعلّم التعلم المستمر، وتغرس حب المعرفة، وتبني الدافعية الذاتية، بحيث يصبح الإنسان قادرًا على إعادة بناء ذاته كلما تطلبت الظروف ذلك.ومن هنا، فإن نجاح أي مشروع تربوي في مجتمع متغير ثقافيًا يقاس بقدرته على صناعة إنسان متوازن، لا منغلق ولا ذائب، لا متمرد بلا وعي ولا مطيع بلا تفكير. إن التربية التي نريدها هي تربية تُعيد للإنسان مركزه في عالم سريع التغير، وتمنحه الأدوات الأخلاقية والعقلية التي تجعله فاعلًا في التغيير لا مجرد ضحية له.

المشـاهدات 28   تاريخ الإضافـة 27/12/2025   رقم المحتوى 69363
أضف تقييـم