النـص :
ناصر أبو عون
في قصائد الشاعر المصري صلاح عبد العزيز طاقة إيقاعية متجددة تتخفّى تحت ثلاث طبقات من البنى التركيبية هي: (البنية الإيقاعية)، و(البنية الحوارية) وأخيرا (البنية الدرامية)؛ فعلى صعيد البنية الإيقاعية؛ يستطيع القاريء الالتفات إليها من التناغم والهارموني بين (الصور المبتكرة)، و(البناء النحويّ) للجملة في امتدادها داخل السطر الشعريّ، مع الحرص على تطريزها في نسيج المقاطع الشعرية؛ ومن ثَمَّ يمكننا رصد البنية الإيقاعية داخل نصوص صلاح عبد العزيز النثرية قلبًا وقالبًا على أكثر من مستوى؛ نذكر منها:(الاتكاء على استراتيجية التكرار المتلاحق واللاهث والمنظم لبعض المفردات التي ينتج عنها ترددات عالية للأصوات)، وكذلك (التنغيم الصوتيّ الصادر من توظيفه المحكم للأسلوب الإنشائيّ بتنوّعاته)، فضلا عن وعيه النقديّ بالطاقة المشعة من بعض (الصيغ اللغوية)، و(الأصوات ذات التردد العالي، والتقفية المتعمَّدة). وهنا يمكنك أن تسمع بقلبك لهذا المقطع: [طاردتنى الأحلام منذ الولادة/ بأن صباحا يأتى يحمل شمسا وعصافير/ وبأن الملائكة قريبون للغاية نفسها/ قابلتهم فى المقهى/ جلسنا إلى كوب واحد/ نرشفه فى مهل واثقين بالمحاولة/ كالكمين فى مقاه خاوية من البرد/ اجلسى أيتها العاصفة/ للشجر أن يستعد/ وللصبايا أن يتزوجن/ لك الوقت المهيأ فى انفراجة الباب/ وشراعة الكمائن/ ولك انهيارات جميلة/ هذا المساء الترابى/ وهذا البلد الغبى فى رغبة التناسل وزيادة الفقر].
ثم يأتي الإيقاع السَّرديّ في نصوص صلاح عبد العزيز جليًا ومؤثرًا، وخاصة في مطولاته الشعريّة ومرتكزًا على تقنيات القص والحكي والديالوج والمنولوج والاستغراق في تصوير الزوايا المعتمة داخل النص. ولكن تتنوّع وتتابين سرعات هذا الإيقاع ما بين: (سريع ناشيء من[الحوار المحتدم والثائر الضاجّ بالانفعالات فيشد القاريء من رأسه ويسلبه إرادة التوقف فيتابع النص دفقة واحدة]]، وهاديء[مشبوك في الفكرة، وهي التي تدير حركته، وتحكم عقاله] وبطيء[يتولّد من التركيز على التفاصيل الدقيقة واستلهام الذات خاصة في حالة المونولوج الداخلي]). وفي هذا المقطع تستطيع أن ترى بقلبك ما خفي من إيقاع سرديّ أخّاذ:[للحجرة نفسها طعم الرحيل/ تتأرجح النجفات من سقفها/ بلا إضاءة لمرور بعض الهواء/ من غير مناسبة/ ربما لتنفسك من بعيد وشارات أصابعك/ لبائع متجول لا يبرح الشُّبَاك/ يحمل جريدة الصباح/ يقرأ الحوادث التى تحبينها بالتأكيد/ فتنصتين لنشيد قومى مر بغتة/ عبر أسلاك الهاتفـ "أبيع بعض البرفانات/- مفارش أنتريهات بيضاء/ - تكايات/ آخذ منها كتبا قديمة وبقايا الأشياء"/ـ لا بد من المبادلة بوسعى تأجير المنزل/ ـ سيدتى هل يمكن أن آخذ ملبسه/ـ يمكن/ ويمر نشيد قومى فى الصالة عبر الممشى/ يتأرجح فى السقف ويهوى].
ثم يتبدّى لنا نوع آخر من الإيقاع؛ وهو إيقاع تجريديّ ينبثق من المحتوى الفكريّ والرؤية الفلسفية التي يبثُّها صلاح عبد العزيز في نصوصه الطويلة؛ حيث نلاحظ طريقته في تثبيت الأفكار في خطوط متوازية تشبه أوتار آلة العواد المتراصة في صورة متوازية، ثم يعيد ترديدها داخل تضاعيف النصّ فينجم عنها نوع من الوحدة العضوية والانسجام. وعلى منحى آخر يوظّف التراكيب اللغوية والصوريّة ليصنع إيقاعًا بلا صوت، فضلًا عن الاستفادة من إيقاع القيم الرمزية التي تشعُّ طاقة نورانيّة فتضيء النص من الداخل، ناهيك عن الإحساس العالي باللغة، واستخدامه ألفاظًا ذات دلالات سمعية وإيقاعية. ولنكتشف هذا الجمال فلنقرأ له مقطعًا من نص: (تابع أنا مرة أخرى)[= أنا الوحيد فى هذه المدينة/ من يُجَمِّلُنى إذن/ غير هذى الوجوه/ وغير شارع أَحَبُّ ما فيه/ اختراع أناس / يمرُّون من الحوائط/= الشارع الوحيد الذى أُحبه/ فى الجانب الآخر/ حيث نهر صاخب/ خلف العمارات/ وحيث القطط أكثر ألفة/ من كلب ضال/= بالطبع نحن وحيدان منفردان/ بأربعة عيون فقط/ يُحدّق فينا/ كأسان من الليمون/ ومَقْعَدان/ ويلزمنا الحضور/ = فى آخر الحديقة الصناعية/ حيث نكمل التعارفـ من أعطاك اسمى؟!ـ (رجل عجوز يهوى الخراب)= نحن أيضا نهوى الخرائب/ حين يأتى الصيف/ أكون هنا/ أكثر مواتا/ من ميت/ ومن مدينة خاوية/ وكل صيف/ نفعل نفس الشىء= نحمل المقاعد، نرتب/ الصو/ إلى أن يحين الموعد/ وفى كل صيف/ ترحلين/ تحملين اسمى/ ولا أحمل منك شيئا].
|