الأربعاء 2025/7/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
نيوز بار
الغرفة التي انكشفت
الغرفة التي انكشفت
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

لا شيء يثير العقل مثل لحظة انكشاف الظلمة، تلك التي تتراجع فيها الظلال فجأة، كاشفة عن غرفة سوداء كانت تُحاك فيها خيوط أعقد مشروع اختراق في الشرق الأوسط منذ ربع قرن. فالحروب الكبرى لا تبدأ بالقصف، بل تسبقها ملفات وأجهزة، وجواسيس يتنفسون بين الناس، وخرائط تتغير ألوانها في العتمة، بينما تنشغل الجماهير بثنائية ساذجة: من انتصر؟ من انهزم؟ وكأن الأمر لا يتعدى مباراة نهائية في كأس العالم.

 

لكن الواقع لا يُروى بهذه البساطة. من تابع ما حدث مؤخراً بين إيران والولايات المتحدة، لن تعنيه الحماسة العاطفية لشاشات ملوّنة تلوك الخطاب السياسي كخبز يومي. القصة أعمق، وأكثر تشابكاً، وربما ما جرى لم يكن حرباً، بل خطة انقلابية جرى وأدها قبل أن تولد. جرى ذلك في لحظة ما، حين باغتت طهران خصومها بخطة طوارئ جرى تحضيرها في وقت لم يكن أحد يتوقع أن إيران تملك بعدُ قدرة على إدارة حرب استخباراتية وقائية بهذا الحجم.

 

الضربة التي وُصفت على لسان الإدارة الأمريكية بأنها "كبيرة"، كشفتها لاحقاً وسائل إعلام أمريكية جريئة على حقيقتها: المنشآت النووية كانت فارغة، وبعضها لم يعمل منذ شهور. ولولا استقلال الصحافة الأمريكية وبنيتها القانونية، لما تجرأت شبكات كالـCNN على تسريب تقارير استخباراتية تؤكد أن كل ما حدث لم يكن سوى محاولة تعطيل مؤقت لمشروع نووي، لا تدميره.

 

ولأن أمريكا لا تعرف كيف تحتفظ بأسرارها طويلاً، فإن مؤلفاً من طراز بوب وودورد أو سيمور هيرش قد يكون الآن بصدد كتابة فصل آخر من كتاب لم يُكتب بعد. هناك، في كواليس "مجتمع الاستخبارات الأمريكي" الذي يضم 16 وكالة متفرعة، يتقاطع الأمن مع السياسة، وتتشابك الأسرار مع الانتخابات، ويصعب على الحقيقة أن تختبئ طويلاً.

 

لكن إيران، التي بدت في بداية المشهد كمن يترنح، تصرفت على نحو مختلف. لم تكتفِ بامتصاص الضربة، بل قلبت الطاولة على الجميع: ردود محسوبة، تحركات أمنية دقيقة، تبديل في مواقع القيادة الاستخباراتية، وانكشاف مخيف لشبكات تجسس داخلي قُدّر عددها بـ700 عميل، وربما أكثر من 1400، بحسب تقديرات غير رسمية. بعض هذه الشبكات كان نائمًا داخل مؤسسات الدولة، كألغام زرعت منذ سنوات.

 

السؤال الذي لا يُطرح عادة في فضاءات الإعلام الاستعراضي هو: لماذا كل هذا؟ لماذا الآن؟ ولماذا إيران بالتحديد؟ لأن سقوط إيران لا يعني فقط تفكك جبهة إقليمية معادية للهيمنة الغربية، بل يعني في جوهره تطويق روسيا، الجار الشمالي الذي يرى في طهران جدار صد استراتيجي. فكل من يقرأ الجغرافيا بعين الأمن، يعلم أن انهيار طهران يعني ممراً مفتوحاً على خاصرة روسيا، ومقدمة لتكرار سيناريو الحصار الخانق الذي طُبق على موسكو منذ سنوات.

 

ولهذا فإن بعض الأصوات التي تتحدث عن "تخلي موسكو عن طهران" لا تعرف شيئاً عن حقيقة العلاقات بين الدول، ولا كيف تُدار المصالح في الخفاء. أجهزة الاستخبارات الروسية والصينية كانت في قلب الحدث، تمد طهران بمعلومات لحظية، وتراقب تسلل الأعداء، وتسهم في تفكيك شبكة الجواسيس التي كادت أن تُفجر قلب النظام من الداخل. لا أحد يقاتل دفاعاً عن أحد مجاناً، ولكن حين تتقاطع المصالح الأمنية، تتداخل المصائر.

 

إسرائيل، بدورها، كانت تأمل في انقلاب برقّي تحت وابل من القصف. هكذا صرّح قادتها، وهكذا بشر نتنياهو حين دعا الشعب الإيراني للثورة، فلم يسمعه أحد. على العكس، فقد وُلد إجماع داخلي نادر حتى بين من يختلفون مع النظام. إذ في اللحظة التي تهدد فيها الأرض، تتقلص المسافات بين النظام والمعارضة، ويصبح الخلاف مؤجلاً أمام شرط البقاء.

 

لقد وقعت تل أبيب في المصيدة ذاتها: أُغريت بثقة زائفة في نجاح الحرب الخاطفة، ولم تتوقع أن ترد طهران بحرب استنزاف طويلة تُجبرها على طلب النجدة. هناك نقطة حرجة في كل مواجهة، حيث لا تعود القوة العسكرية وحدها قادرة على ترجيح الكفة، بل الذكاء، والمرونة، والتوقيت، وقد استخدمت إيران الثلاثة دفعة واحدة.

 

تحدث الرئيس التركي مؤخراً عن "سايكس ــ بيكو جديدة"، مشيراً إلى مشروع أوسع يعاد تخطيطه للمنطقة، تتداخل فيه الأدوات الاقتصادية بالحملات الإعلامية، وتتشابك فيه الضغوط بالاختراقات. الحصار، كما جرى في العراق وسوريا وإيران وغزة، ليس فقط تجويعاً للشعوب، بل خلقٌ لنسيج اجتماعي هش، يكون أكثر عرضةً للاختراق، وأكثر استعداداً للبيع عند أول صفقة.

 

وحين ظهر بوتين قبل أيام، متحدّثاً عن عرض روسي لتطوير منظومات دفاع جوي لإيران قوبل بفتور، بدا واضحاً أن طهران ــ برغم حاجتها ــ لا تريد الآن دخول مشاريع قد تُفهم كتصعيد. إنها تشتغل بهدوء، لكنها تغيّر الجلد من الداخل. تغييرات أمنية، تصفية ملفات، وتنظيف للدولة من الاختراقات التي تحولت إلى شريان داخلي لأجهزة خارجية.

 

الخطر الحقيقي إذن لم يكن في القصف، بل في ما كشفه القصف. كانت الضربة الأخيرة على إيران، في جوهرها، "كشفاً بالأشعة" على غرفة سرية لم تكن معروفة، بل ومُنظّمة إلى درجة مرعبة. غرفة أُديرت فيها أكبر عمليات التجسس، واستُخدمت فيها أدوات على أعلى مستوى، واستفادت من كل فوضى خلقها الحصار والفقر والفساد.

 

نعم، ليس من المفيد أن نسأل: من انتصر؟ من انهزم؟ فتلك ثنائية تُريح العقول المتعبة، لكنها لا تشرح الحقيقة. القصة ليست عن تدمير منشأة، بل عن إنقاذ مشروع من كمين أُعدّ بعناية. إيران، شاء البعض أم أبى، أجهضت المخطط، وحمت ــ دون أن تدري ــ خرائطَ دول أخرى كانت في الطريق: مصر، تركيا، وربما أبعد.

 

الغرفة السوداء لم تعد مظلمة، واليد التي لم تُرَ خرجت من الظل. أما الدرس، فهو أن الهجوم القادم قد لا يأتي عبر الطائرات، بل عبر وجوه مألوفة، تتحدث باسم الوطنية، وتحمل في داخلها جوازاً آخر... وجهاز إرسال.

المشـاهدات 26   تاريخ الإضافـة 02/07/2025   رقم المحتوى 64465
أضف تقييـم