
![]() |
قصص قصيرة جداً |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : زيد الشهيد فَيْضُ الورودِ العِذاب " إنَّ القَليلَ مِنَ الحَبيبِ كَثيرُ " المتنبي
(1) حَسَدُ الحُسّاد ضحكت الوردةُ البيضاء إذ أهملَها الصبيُّ الذي راحَ يَقطُف قريناتِها الحَمراء والزّرقاء والبنفسجية والصَّفراء ليصيغَ مِنها باقةً سيحزمُها بخيطِ حَريرٍ لميعٍ ويضمُّها لمجموعةِ الباقات حيث سَيقفُ على قارعةِ الطريق كي يبيعها على المارَّة، خُصوصاً أولئِك الذين يَمرقون بسياراتِهم الصالون وقد هاجمَهم العَبيرُ المُكدَّس في الباقاتِ المُحتشِدة تُعلنُها سلالُ بيعٍ يَحملُها الباعةُ الصِّبيةُ على الأكتافِ فيفضَّلون اقتناء باقة سيضعونها على دشبول السيارة ليفعمهم بشذا توخّوه يشيع داخلَ فضاءِ القَمرة فيخلق عالماً من الحبور، ونغماً يتوافق وأغاني الصَّباح تطلقه فيروز "على جسر اللوزية"، أو يأتي على لسانِ زكريّا أحمد "الورد جَميل" وهو يترنَّم برأسٍ يطوِّح وعينين تُطلقان فراشات الألق كتعبيرٍ عن حالةِ زهوٍ لا تُقدِّرُ فحواه الا الورود، ولا يدركُ تقييمَها إلا ذوو النفوسِ المُرهفة للجَمال. ضحِكت الوردةُ البيضاءُ لأنَّها تدرك أنْ سيعود ليقطفَها، وسيضمُّها الى أخواتِها الوُريدات. هي تعرفُ أنَّ الألوانَ لا تكتمل بالجَّمال إلا اذا كانَ الابيضُ صاحباً حميماً لها. إنَّ الألوانَ جميعاً تحسدُ الابيضَ، وإنَّ الابيضَ لونُ اليناعةِ الرهيف الذي تتغنّى به الحياة. فلا غرابة بعد ذلك من تنامي الحَسدِ في قلوبِ الأُخريات، صويحباتها الوُريدات. يحاول الصبي تجاهلَ الابيض تواسياً وباقي الألوان؛ لكنّه يعودُ مُجبَراً لضمِّها، وهو يُّرددُ في سرّهِ: "لا يحلو الليلُ إلا بالقمر، والسَّحَرُ لا تكتملُ روعتُه إلا بالضّوءِ الفضّي القادم من مُشتقات البياض".. نعم ؛لا يقول ذلك علناً.. قولُ ذلك علناً يزيدُ مِن غيظِ القَرينات. ترمي الوردةُ البيضاء عتبَها على الصبي وتُسمِعه قولاً كان المتنبي به يخاطبُ سيفَ الدولة: " أزلْ حسَدَ الحُسّاد عنّي بكبتِهم// فأنتَ الذي صيَّرتَهم لي حُسَّدا". سَمِعت ذلك من أسلافِها الوريدات البيضاء آنذاك وهنَّ يحفِفنَ البلاط في أفاريز تبثّ الضَّوعَ العَذب وتنثر العَبيرَ عالَماً للأبّهةِ والبذخ.. لا يُدرك الصبي كَنه الوردةِ البيضاء ولا يترجِمُ عتبَها سوى أنَّه همسَ لها يقول: أموتُ فيكِ حبّاً.. كفاني أعشقُكِ لشيئين: روحُكِ بنقائِها ولونُكِ بصفائِه.
(2) قَصيدةُ الورود أسعَدَها أنَّها تتلقّى منه باقةَ وردٍ ضاحكة، وأبهجَه أنَّها تلقَّت الباقةَ وعيناها بسعة قصيدةِ فرح.. قال لها: "الوردةُ رسالةٌ بنفسجيةٌ بكلماتِ الروح" فانعطفَ وجهُها ومالَ خَجَلاً؛ تداركَت الموقِفَ بأنْ نظرَت الى وردةٍ أشبعَها لونُ الدم، ومرَّت بأناملِها على أخرى شربَت وبرواءٍ بياضَ الثلج. قالت: الورودُ تعني الحياةَ في ربيعِها. وكان هو يغرقُ في يمِّ البَهجةِ لسعادتها." إنَّ القلبَ لَيهنأ حين المحبّون يسعدون، وإنَّ الروحَ تستحيلُ سحابةَ جذلٍ لحظةَ اللقاء، وإنِّي لفي ظِلالٍ وخثرةِ ألقٍ! يتمتمُ مأخوذاً بِسحرِ بهجتِها.. وكان يُمنّي النَّفسَ برسمِ لوحةٍ ألوانُها حُروفُ روحِه، وبكتابةِ قصيدةٍ تجمعُ ألوانَ الطيفِ الشَّمسي، وبلقاءٍ يخطوان فيه على دربٍ تحفُّه شجيراتُ الورد. زهورُ حدائقِ الطريق تغنّي بكورالٍ يفاقمُ كرنفالَ القلب. وكانت (هي) تتمنّى أنْ يحملَها بين ذراعيه ويعدو، وكان (هو) في رغبةِ أنْ يرفعها عن الارضِ باحتضانٍ حَميم، ثم يرتميان في بُحيرةِ خيالٍ رسماها يوماً بكلماتٍ تبادلاها كرسائلَ، وصورٍ تحاورا من خلالِها بنظراتِ عيونٍ تعجُّ بهناءٍ ينسكبُ دُموعاً تجري كما ساقيةٍ عَذراء، أو كهطيلِ مَطرٍ رِقراق، أو كَكركَراتِ طفلٍ خَجولٍ وجدَ الفضاءَ له فانطلقَ حرّاً يُكسِّر قيودَ خجلِه. مرّا من أمامِ عجوزين يقتعدان مِصطبةً وقد ضمَّت العجوزُ باقةَ وردٍ في حضنِها والى يمينها القرينُ العجوز يوزِّعُ النظراتَ على صَفِّ شجيراتِ الحديقةِ الماثلةِ ويقطفُ زغاريدَ العصافير المُحتفية بنهارِها وهي تخافُ قدومَ غروبٍ سيحرمُها من جنَّةِ اللعب التي لا تملُّها ويرمي بها إلى غياهبَ الليلِ العتيم. سمعا العجوزَ يهمسُ للقرينة:" كان لقاؤنا الأول هنا (اللقاءاتُ الأولى خفقةُ قلبٍ.. رعشةُ أصابع)، أمام هذه التي كانت آنذاك شجيرات قبلَ خمسين عاماً؛ كنتُ جلبتُ لكِ باقةَ ورودٍ بيضاء، وأنتِ اكتفيتِ بزهرةِ القُرنفُلِ تجمّل شعرَكِ الذهبي (أيُّها الذهبُ تراجعْ أمامَ شعرِها ).. نحنُ نكبرُ والطَّبيعةُ هي، هي تزدهي." .. تحسَّرت العجوزُ، ثم همّت بالنّهوض، تخاطبُه: " هيّا، علينا العودةُ فخُطانا تتعثَّر ونحتاجُ لوقتٍ طويل ريثما نصل البيت(البيتُ عشُّهما الخالد) ، لم نعُد شباباً فنقطعُها بدقائق." نهضا بتؤدةٍ؛ وبتؤدةٍ مشيا فيما (هو) و(هي) انتظرا ابتعادَ العجوزين فاقتعدا مكانيهما على المصطبةِ وراحا يطالعان الاشجارَ العالية ويراقبان العجوزين وهما يجتازان بوابةَ الحديقةِ العريضة ويتواريان خلفَ السياج. همسَ كلٌّ منهما في دواخلِه: بعد زمنٍ سننهضُ ونقتفي خَطوَ العجوزين؛ ونتحرُك خارجَ الحديقة. همسَ بحنوٍّ: "ارجوكِ احتفظي بباقةِ الورد.. لا تَدعي الورودَ تبكي." ابتسمت (يا لابتسامةِ المُحبّين الخُلَّص!)، ومالَت برأسِها كي ينامَ على صدرهِ بينما دفَنت وجهَها في جَيشِ المياسِم وراحت تستنشقُ روحَه وتردُّ على هَمسِه: سنكبرُ ونغدو كالعجوزين اللذين تركا مكانَهما لنا.. لكنّي سأبقى كالعجوزِ احتفظ بباقةِ الورد.. ألم تلفت انتباهَك باقةُ الوردِ التي بيدِها؟ "
(3) حُزنُ الورود في الحديقةِ الخلفية لِقسمِ اللغةِ الانكليزيةِ جيشٌ من الورودِ يَحتشدُ متدرِّعاً بالألوان الناصِعةِ والعِطرِ الأخّاذ.. يجلس الطالبُ الشاعرُ مع وَرقةٍ وقَلمٍ يصاحبانه دوماً( وخيرُ صديقٍ للشاعرِ القلمُ، والورقةُ، والقلبُ الرهيف).. يجلس ليكتبَ رسالةَ حبٍّ مَقرونةً بعِطرِ الورود وبهاءِ من التقاها يوماً في حَفلٍ صنعته الصدفةُ فكان اللقاءُ، وكان الوثوقُ، وكان العهدُ الذي انتهى بعد عامين بالاقتران. صارا يصرُفان الأيامَ على باقاتِ ورودٍ يتبادلانها كإشهارٍ لدوامِ المَحبّة؛ لكنَّ الزمنَّ عدوٌ قاهرٌ يقارعهما بانكسارِ الورودِ، وذبولِ الوريقات، وانهصارِ المياسم. قال لها: " لِنجعلَ حياتَنا كالورودِ يانعةً وعَطِرة." فقالت بشيءٍ من التقَهقُر:" لكنّها ستذبلُ إنْ عاجلاً أو آجلاً ! يُخطئ مَن يظنَّ الورودَ منذورةً للإسعادِ والسّرور ؛ وإنِّها لا تبكي أو تتشكّى." ... وكان لا يُريدُ للمرارةِ أنْ تتقدَّم(المرارةُ خاذلةُ الروح) ولا لخيبةِ الأمل أنْ تستحوذ على سلوكِهما (خيبةُ الأملِ بكاءٌ مصحوبٌ بالألم )، فردَّ بشيءٍ من قوةِ العَزيمةِ وتقاسيمَ الاصرارِ على النَّهلِ من نَميرِ ماءِ الحياة:" قد يتحطمُ الانسانُ لكنّه لا يهزم." . ابتسمت للقولِ ابتسامةَ مّن أُثيرت في قلبِه ذكرى. راحت نظراتُها ترحل بعيداً، بعيداً؛ إلى حيث كانا طالبين جامعيين يدرسان" الشيخ والبحر"، والسِّت ابتسام، استاذةُ مادّةِ الرواية، تتلذَّذ بما يُردِّدُه كطالبٍ مُتميّزٍ بالقراءةِ ولفظِ الكلِماتِ بتلقائيةٍ كما يلفظُها الانكليزي صاحبُ اللغةِ الأم... والأدهى أنَّ السِّت ابتسام كانت تُصرِّح بأنَّ أكثرَ مَن يُتقن اللغةَ بينكم هو هذا الطالبُ الذي يُفضِّلُ الانزواءَ ويهرَبُ عن زميلاتِه الطالبات لانَّ له صديقاتٌ كُثرٌ يجالسهنَّ في الحديقةِ الخلفيةِ للقسمِ (صديقاتُ العِطرِ، وأيقوناتُ البهاء)... قولُ الستِّ ابتسام فجِّر لدى زملائِه الأسئلةَ فاستداروا يرمقونَهُ بمكرٍ.. زميلاتُه قُلنَ بغنَجٍ:" أيا مَلعون، تتظاهر أمامَنا بالورعِ والتُّقى!" (أيُّ ورعٍ في تجليّات الحُب، وأيُّ تقىً في حَضرةِ السَّمر!) ، أمّا زملاؤه الذكور فضحِكوا بعيونِهم وكايدوه: "ها يالخوينِس!.. لحظتَها ضَحكت الستُّ ابتسام وراحَت تنظرُ اليه وتبتسمُ بتشفّي: "خوفُكم مِن الخوينِس! "..وكانت صديقاتُه، المُمتلئاتُ بالعِطر، خلفَ القِسمِ ينتظرنَ بشغفٍ ولهفةٍ رنينَ الجرسِ لاستقبالِه وإعدادِ عطرِهنَّ كرسالةِ استقبال. برنينِ الجرسِ يهرعُ لهيفاً شغيفاً ليجلسَ على المصطبةِ في الحديقةِ الخلفيةِ للقسمِ يكتبُ شوقَ صديقاته الوريدات على ورقِ الروحِ لإنتاجِ قصيدةٍ سيُلقيها في حفلِ تخرُّج طلبةِ المرحلةِ الرابعةِ الذين يسبقونَه بعامٍ. وفي نافذةٍ من نوافِذِ غرفةِ الاساتذةِ في الطابق الثاني يلمحُ السِّت ابتسام تطالعُه مُبتسمةً وسطَ حفاوةِ ألوانِ الصديقات وعطرهنَّ، ويطالعُ زملاءَه من الطلبةِ والطالبات ينبثقون من بين شجيرات الأكاسيا ومِسكِ الليل وقد أخذَهُم الشَّغفُ لمشاهدةِ ما تشاهدُه الست ابتسام في أوقاتِ فراغِ ما بين الدروس، فيدركون أنَّ للشاعرِ عالمُه الخاص وأحبابُه الذين يَعشق . لم يدركوا أنَّ قلبَ الشاعرِ كان بعيداً في قِسمٍ بعيدٍ من كليةِ بعيدة له زميلةٌ حبيبةٌ سيقترنَ بها حالَ تخرجِهما، وأنَّ القاسمَ المشتركَ بينهما هو العهدُ بالوفاءِ وإنْ على حربٍ ستأتي لتسرقَ حلمَهما الجَّميل وتستبدلُه بكابوسٍ مَصحوبٍ بكَمدٍ سيستغرق ثمانيةَ أعوامٍ. بانتهائِها تجدُ الحبيبةُ نفسَها وحيدةً؛ والصديقات الوريدات يأخُذنَ بالذبولِ ويموتَّنَ من الحُزن بعد انتظارٍ طويلٍ، طويل؛ ما انتهى إلّا على خيطِ دخانٍ مرَّ من فوقِهما وانسابَ تاركاً هواءً من لَوعةٍ وأنفاسِ حنينٍ همَدَت على مصطبةٍ فارغةٍ تكدَّس فوقَها غبارٌ مَعجونٌ بالدم. |
المشـاهدات 33 تاريخ الإضافـة 29/07/2025 رقم المحتوى 65230 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |