الثلاثاء 2025/9/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
المثقف بين الأصالة والأداء المحسوب
المثقف بين الأصالة والأداء المحسوب
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

د.آمال بوحرب

 

قدم عالم الاجتماع “إرفنغ غوفمان” في كتابه الشهير عرض الذات في الحياة اليومية مفهوم الدراماتورجيا وهو إطار نظري ينظر إلى التفاعلات الاجتماعية كعروض مسرحية يؤدي فيها الأفراد أدوارا محددة أمام جمهور معين يرتدي الفرد واجهة اجتماعية يختارها بعناية لتتماشى مع توقعات الآخرين سواء في إطار العمل أو العلاقات الشخصية أو الأوساط الثقافية يعتمد هذا الأداء على عناصر مثل الملابس واللغة والسلوكيات التي تشكل الانطباع الذي يريد الفرد إيصاله في هذا السياق يصبح المثقف بوصفه فاعلا اجتماعيا جزءا من هذا المسرح حيث يواجه تحدي الحفاظ على أصالته وسط ضغوط العرض المحسوب كما يقول الفيلسوف “ريتشارد رورتي” (الحقيقة ليست شيئا نكتشفه بل شيئا نصنعه من خلال تفاعلاتنا الاجتماعية) مما يعكس جوهر الدراماتورجيا في تشكيل الهوية هذا المقال يستكشف كيف تتحول ممارسات المثقف الثقافية إلى أداء دراماتورجي وكيف تتداخل الثقافة مع السوق الرمزي لتنتج مثقفا يشبه العلامة التجارية أكثر من كونه صوتا نقديا مع الاستشهاد بتجارب أدبية حديثة لتوضيح هذا التحول

 

الدراماتورجيا وصناعة الانطباع

 

في إطار الدراماتورجيا يعتبر الانطباع العملة الأساسية للتفاعل الاجتماعي يسعى الفرد وفق “إرفنغ غوفمان” إلى التحكم في الصورة التي يقدمها للآخرين من خلال إدارة دقيقة للواجهة الأمامية حيث يظهر أمام الجمهور والواجهة الخلفية حيث يمكنه أن يكون أكثر عفوية وأصالة بالنسبة للمثقف تتجلى هذه الواجهة في كيفية تقديمه لأفكاره سواء عبر الكتابة أو الخطابات العامة أو الظهور الإعلامي على سبيل المثال نجد الكاتبة “زادي سميث” التي تستخدم في مقالاتها أسلوبا يمزج بين العمق الفكري واللغة الجذابة لتخاطب جمهورا واسعا مما يعكس اختيارا دراماتورجيا ،محسوبا هذا الاختيار ليس دائما عفويا بل غالبا ما يكون موجها لتلبية توقعات الجمهور سواء كانوا أكاديميين أو عامة الناس كما يقول الفيلسوف “جياني فاتيمو” (في عصر ما بعد الحداثة تصبح الهوية سلسلة من الأقنعة التي نرتديها حسب السياق) ،مما يبرز كيف يمكن للأداء أن يصبح أداة لتشكيل الهوية الرمزية هنا تبدأ الأصالة في التلاشي حيث يتحول الأداء إلى وسيلة لتحقيق قبول اجتماعي بدلا من التعبير عن الحقيقة الذاتية.

 

المثقف والسوق الرمزي

 

مع تزايد تأثير العولمة والإعلام أصبح المثقف جزءا من السوق الرمزي حيث تقاس قيمته بقدرته على تسويق أفكاره أكثر من جودتها في هذا السوق تتحول الأفكار إلى سلع والمثقف إلى علامة تجارية تروج لنفسها تجربة الكاتبة “أرونداتي روي” توضح هذا التحول حيث أصبحت بعد نجاح روايتها إله الأشياء الصغيرة رمزا ثقافيا يطلب منها الظهور الإعلامي لمناقشة قضايا اجتماعية مما جعلها تواجه ضغوطا لتبسيط خطابها النقدي ليتناسب مع توقعات الجمهور هذا التحول يعكس ديناميكيات الدراماتورجيا حيث يصبح الأداء موجها لتحقيق رأس المال الرمزي مثل الشهرة أو النفوذ كما يشير الفيلسوف “سلافوي جيجك” (الأيديولوجيا في عصرنا ليست مجرد أفكار بل طريقة تقديم هذه الأفكار للجمهور) لكن هذا الاهمال  قد يؤدي إلى تسطيح الخطاب الثقافي حيث تهمل الأفكار العميقة التي تتطلب تأملا طويلا لصالح ما هو سريع الاستهلاك وسهل الهضم.

 

فقدان الأصالة أمام العرض الفني

 

عندما يتبنى المثقف الدراماتورجيا بوعي مفرط يصبح عرض الذات غاية في حد ذاته مما يهدد أصالة دوره كناقد اجتماعي نجد مثالا في بعض الكتاب المعاصرين الذين يركزون على إثارة الجدل في منصات التواصل الاجتماعي مثل الكاتب “بريت إيستون إليس” الذي يختار أحيانا مواضيع مثيرة للجدل للحفاظ على حضوره الإعلامي مما قد يضعف عمق نقده الأدبي هذا التحول يعكس ما أشار إليه “إرفنغ غوفمان” بأن الأداء قد يصبح أكثر أهمية من الجوهر كما يقول الفيلسوف “باولو فيريرا” (في عصر الاستهلاك يتحول الفكر إلى سلعة يتم تقييمها بناء على جاذبيتها السوقية) مما يبرز خطر تحول المثقف إلى مؤثر يسعى لجذب الانتباه بدلا من إلهام التفكير العميق هذا التوجه قد يؤدي إلى فقدان المثقف لدوره كحامل للضمير النقدي حيث يصبح الأداء الفني غاية تهيمن على الرسالة الفكرية.

 

التوازن بين الأداء والأصالة

 

على الرغم من تحديات الدراماتورجيا يمكن للمثقف تحقيق توازن بين الأداء الاجتماعي والأصالة من خلال الوعي بدوره والجمهور الذي يخاطبه تجربة الكاتبة “تشيماماندا نغوزي أديشي” تظهر هذا التوازن حيث تستخدم منصات المحاضرات لنشر أفكار معقدة حول الهوية والثقافة بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق محافظة على مصداقيتها الفكرية كما يقول الفيلسوف “يورغن هابرماس” (الحوار العام الأصيل يتطلب فضاء يسمح بالنقد دون خضوع لضغوط السوق) مما يشير إلى أهمية المقاومة الفكرية هذا التوازن يتطلب وعيا ذاتيا وقدرة على مقاومة إغراءات السوق الرمزي مما يسمح للمثقف بأن يكون صوتا نقديا يساهم في إثراء الحوار العام بدلا من استهلاكه.

 

إن  إعادة تعريف دور المثقف

 

تظهر دراماتورجيا “إرفنغ غوفمان” أن الحياة الاجتماعية بما في ذلك الممارسات الثقافية هي مسرح دائم التفاعل حيث يواجه المثقف تحديا بين الأداء والأصالة في عالم يهيمن عليه السوق الرمزي يصبح من السهل على المثقف أن يتحول إلى علامة تجارية كما نرى في تجارب أدبية حديثة مثل “أرونداتي روي” أو “بريت إيستون إليس” لكن الأمل يكمن في قدرة المثقف على استخدام أدوات الدراماتورجيا بوعي لخدمة أهداف فكرية وأخلاقية كما فعلت “تشيماماندا نغوزي أديشي” كما يقول “ريتشارد رورتي” (المعرفة هي نتاج التضامن الاجتماعي لا البحث عن الحقيقة المطلقة) مما يعني أن المثقف يملك حرية تشكيل دوره ،استعادة دور المثقف كمرشد نقدي تتطلب التزاما بالأصالة والشجاعة لمواجهة القضايا الجوهرية والقدرة على التواصل بطريقة تحترم ذكاء الجمهور وتلهمه فقط من خلال هذا التوازن يمكن للمثقف أن يتجاوز حدود المسرح الاجتماعي ليصبح صوتا حقيقيا للتغيير والتنوير.

 

المشـاهدات 43   تاريخ الإضافـة 31/08/2025   رقم المحتوى 66219
أضف تقييـم