الثلاثاء 2025/10/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 30.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة الحصار
قصة قصيرة الحصار
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

محمود البياتي "*"

 

انهالت فجأة زخة رصاص، انبطحت على الرصيف، وراء جذع نخلة، ثم عدت زاحفاً عبر الحديقة إلى الداخل، تفحصت جسمي في مرآة طويلة، بطولي، فلم أجد أي أثر لجرح أو حتى لخدش.

**

دنوت بحذر من الباب، رأيته رابضاً خلف متراس متحرك، إنه جاري الغامض والوحيد في هذه الواحة، لم أتوقع أن يطلق النار عليَّ هذه المرة، فقد لحظته مشغولاً في الأيام الأخيرة بنباتات حديقة بيته وبالرسم ومطالعة الكتب والاستماع للموسيقى، خيّل لي أنه نسيني، ولكن يبدو أن المسلك البريء كان خدعة جعلتني أطمئن وأفكر بمغادرة البيت.

**

حتى الآن لم أجد سبباً يدعوه إلى منعي من مغادرة البيت، فهو يتجاهلني حين أجلس عند النافذة أو أتمشى في الحديقة... ويطلق الرصاص عليَّ إن وطئت رصيف الشارع العريض الفاصل بيننا.

**

تساورني أحياناً فكرة مجنونة، أعبر الشارع وأعانقه، صرخت أمس من النافذة:

  • اسمع، لماذا تحاصرني، لماذا تمنعني من مغادرة البيت؟

لم يرد، حاولت تبين ملامحه فلم أوفق، فهو يبدو شيخاً في الستين، وطفلاً تارة أخرى، ويبدو كذلك بهيئة امرأة أو شاب مألوف عندي.

**

لم أيأس على أية حال، سعيت للتفاهم، جربت مصادقته ليؤمن بأنني لست عدواً، ولكنه بدد هذه الفرص، ظل يتصرف كما لو أنني عازم على الحاق الأذى به، هل يؤذي مجرد وجودنا في مكان واحد؟ إن كان ذلك حقاً لِمَ لا يسمح لي بمغادرة البيت والتواري عن الأنظار إلى الأبد.

**

كتبت رسالة: (إن سمحتَ لي بمغادرة البيت أتعهد بعدم الرجوع، وأنا حاضر لتلبية أي شرط يساعدني على مغادرة بيتي قبل أن أُصاب بالجنون)، وضعت حجراً داخل الرسالة، ضغطتها بيدي ثم رميتها إليه، جاوبني بعد قراءتها بوابل من الرصاص.

**

يبدو أنني سأبقى سجين البيت، ما العمل؟، قرأت مرة تعليق جدي على حاشية كتاب: إن الاقتناع بعدم وجود حل هو حل أيضاً.

**

استسلمت لقدري، لجأت إلى زراعة الفواكه والخضر والحبوب أملاً في تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي بالطعام، وسّعت حقل الدواجن، صنعت من العنب نبيذاً يكفيني سنة، وبالضد من كراهيتي المتنامية  للجار عرضت عليه تذوق النبيذ، وقفت خلف عتبة الباب ولوحت له بالكأس:

  • أنظر، تعال تذوق نبيذي.

لم يرد، اكتفى بتجاهلي.

**

ها أنا أهرم في بيتي، هو يهرم في بيته، أخذت تراودني فكرة الانتحار، سأحدد أنا وقت موتي وأسلوبه.

**

ولكن لِمَ لا أعامله بالمثل؟!.

أخرجت بندقية جدي وعلب الذخيرة من القبو، مسحت عنها الغبار والشحم فغدت جاهزة للاستعمال، سأمنعه من مغادرة البيت، توجهت إلى النافذة وأطلقت النار بلا توقف إلى أن تعبت.

**

أصبح كلانا محاصراً.

ما جدوى ذلك بالنسبة لي؟

يجب اللجوء إلى وسيلة أخرى لفك الحصار، لم أعد أحتمل وحدتي في هذا البيت الموحش.

**

يوم مشمس، أنا مليء ثقة وبهجة، وقفت أمام مرآتي عارياً، حلقت الذقن، تعطرت بماء الورد، ارتديت أبهى الثياب، وخرجت دون سلاح، عبرت الشارع حيث يقع بيت الجار، استقبلني بصليات متلاحقة من الرصاص، لم أكترث، شعرت فقط بلسعات غير مؤثرة في أنحاء جسمي، واصلت التقدم بعناد، ترك المتراس مرفوع اليدين، اقتربت أكثر، ظل يحدق في عينيَّ بهلع، لا يدري ماذا ستكون خطوتي التالية، تمعنت فيه... لكم هو فاتن!.

فتحت الذراعين فألقى برأسه على كتفي وانفجر منتحباَ.

*

 

 

"*": قاص وروائي عراقي.

  • ولد في بغداد عام 1949 وتوفي في لندن عام 2014.
  • عاش متنقلاً في المنافي بعد هروبه من العراق عام 1963 للمرة الأولى وعام 1974 للمرة الثانية والنهائية لأسباب سياسية، وعاش متنقلاً في مدن عديدة منها: بيروت، براغ، برلين، موسكو، ستوكهولم، ليتوفاه الله في لندن عن عمر يناهز الخامسة والستين.
  • أصدر مجموعتين قصصيتين هما: جغرافية الروح عام 1994، في انتظار الغريب عام 2008. وروايتين هما: رقص على الماء عام 2006، الهارب عام 2015 بعد رحيله. وكتاب في الأدب الساخر أسماه خليلو عام 2010، واختراق حاجز الصوت في القصة القصيرة جداً عام 1984. فضلاً عن اصدارات أخرى في أجناس أخرى.
المشـاهدات 775   تاريخ الإضافـة 28/09/2025   رقم المحتوى 66975
أضف تقييـم