التصعيد الأمريكي–الفنزويلي... نفط على حافة السياسة وصراع نفوذ في الكاريبي
لماذا يتجدد التوتر؟ وما الذي يعنيه لسوق الطاقة؟ وأين تقف موسكو وبكين؟![]() |
| التصعيد الأمريكي–الفنزويلي... نفط على حافة السياسة وصراع نفوذ في الكاريبي لماذا يتجدد التوتر؟ وما الذي يعنيه لسوق الطاقة؟ وأين تقف موسكو وبكين؟ |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب د. سلام قاسم |
| النـص :
يعود التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا إلى الواجهة بين حين وآخر، لكنه في موجاته الأخيرة يبدو أشدّ وضوحاً في رسائله وأوسع أثراً في تداعياته. فالمسألة لا تُقرأ بوصفها خلافاً ثنائياً عابراً، بل بوصفها اختباراً لميزان القوة في الكاريبي، ولأدوات الضغط الاقتصادي في العلاقات الدولية، ولحساسية سوق الطاقة أمام أي اضطراب يطال دولة نفطية كفنزويلا، التي تمتلك احتياطيات ضخمة تجعلها، نظرياً على الأقل، رقماً صعباً كلما اشتدت لعبة المصالح.تُعلن واشنطن أن دوافعها ترتبط بمكافحة تهريب المخدرات والشبكات الإجرامية، وتربط ذلك باتهامات متكررة لمسؤولين فنزويليين أو أطراف قريبة من السلطة، وتبني على هذا الخطاب إجراءات متصاعدة تشمل العقوبات والتحركات الأمنية في المحيط البحري. وفي المقابل، تصف كاراكاس هذه الخطوات بأنها ضغط سياسي مقنع، وأنها ليست سوى محاولة لتطويق الدولة وخنق اقتصادها وفرض شروط خارجية عليها، مؤكدة أن ما يجري يمس السيادة قبل أن يمس أي ملف آخر.غير أن جذور التصعيد أعمق من سجال الاتهامات المتبادل. فمنذ سنوات، تقف العقوبات في قلب العلاقة المتوترة بين الطرفين، لأنها تضرب الشريان الأساسي لاقتصاد فنزويلا "النفط". فحتى عندما لا تتوقف الحقول عن الإنتاج بالكامل، فإن القيود على البيع والتحصيل والتحويلات تحول الثروة إلى عبء، وتفتح الباب أمام تراجع الاستثمار والصيانة والبنية التحتية، وهو ما ينعكس على مستوى الإنتاج وعلى قدرة الدولة على تمويل خدماتها الأساسية. لذلك يصبح النفط حاضراً في كل جملة سياسية، حتى حين يقال إن الملف "أمني" أو "قانوني".أهمية هذا التصعيد تتجاوز حدود فنزويلا نفسها. فمجرد ارتفاع حدة التوتر حول دولة نفطية يكفي لرفع "علاوة المخاطر" في سوق الطاقة، أي ذلك القلق الذي يترجم نفسه سريعاً في توقعات التجار والشركات، وفي حسابات الشحن والتأمين، وفي مزاج الأسواق التي تسعر الاحتمالات قبل أن تسعر الوقائع. وقد لا يعني ذلك بالضرورة قفزات فورية في الأسعار كل مرة، لكنه يعني أن أي خطوة إضافية، أو عقوبة أوسع، أو احتكاك بحري مفاجئ، قد يترك أثره خارج نطاق المنطقة وبصورة أسرع مما يتوقعه القارئ العادي.وعلى المستوى الإقليمي، يكتسب التصعيد معنى سياسياً خاصاً لأن واشنطن ترى في الكاريبي وأمريكا اللاتينية مجالاً شديد الحساسية لمفهوم النفوذ الجيوسياسي. لذلك لا تُقرأ التحركات العسكرية والرسائل الأمنية على أنها موجهة إلى فنزويلا وحدها، بل تُقرأ أيضاً على أنها تذكير بمن يضبط الإيقاع في هذا الحيز الجغرافي، خصوصاً في زمن تتنافس فيه القوى الكبرى على مناطق النفوذ بوسائل أقل صخباً من الحروب المباشرة، وأكثر فاعلية من الخطب.أما على الداخل الفنزويلي، فإن الضغط الاقتصادي يترك عادة تورماً اجتماعياً بطيئاً لكنه مؤلم، تراجع القدرة الشرائية، اضطراب الاستيراد، توتر السوق، وازدياد الشعور بالحصار. وفي المقابل، تميل السلطة هناك إلى توظيف فكرة "التهديد الخارجي" لتعبئة الداخل وشد الصفوف وتبرير التشدد السياسي. وهكذا يصبح المواطن العادي، في كثير من الأحيان، هو من يدفع الثمن مرتين، مرة بسبب الاختناق الاقتصادي، ومرة بسبب احتدام الاستقطاب السياسي.في خلفية المشهد تقف روسيا والصين، لكنهما لا تتحركان بالطريقة نفسها. موسكو تميل إلى دعم كاراكاس سياسياً وإظهار حضور دبلوماسي يرفض التصعيد ويدعو إلى التهدئة، مع حرص واضح على ألا تنزلق إلى مواجهة مباشرة في منطقة بعيدة عن مسارح نفوذها العسكرية التقليدية. إنها إدارة للأزمة أكثر مما هي رغبة في إشعالها، وتأكيد لمبدأ النفوذ أكثر مما هو اندفاع نحو مجازفة.أما الصين فتتمسك بخطاب ثابت في مثل هذه الملفات يقوم على رفض العقوبات الأحادية ورفض التدخل في الشؤون الداخلية، وتدعو عادة إلى معالجة الخلافات بالسياسة والتفاوض، لكنها توازن ذلك ببراغماتية مصالحها، فهي معنية بالطاقة والتجارة والاستقرار، لكنها ليست متحمسة لتحويل الكاريبي إلى ساحة صدام مباشر مع الولايات المتحدة. لذلك تبدو بكين أقرب إلى النفوذ الاقتصادي الهادئ منها إلى الاستعراض الأمني، مع إصدار مواقف منتظمة ضد الإجراءات التي تعاقب شركاء فنزويلا أو مشتري نفطها.ومع كل ذلك، من المهم ألا تُختزل القصة في تفسير واحد. القول إن "النفط وحده" سبب كل شيء تبسيط مخل، مثلما أن تصوير المسألة كحملة "أخلاقية" خالصة ضد الجريمة تبسيط موازٍ. في هذه المنطقة الرمادية تتداخل اعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية، وحسابات الردع الجيوسياسي، وملف العقوبات، وانعكاسات سوق الطاقة، وتوازنات الداخل الفنزويلي. ولهذا السبب تحديداً يبقى التصعيد قابلاً لسيناريوهين متعايشين، احتواء تدريجي عبر الضغط والعقوبات مع إبقاء باب التفاوض مفتوحاً، أو توتر محدود في البحر والجو يرفع المخاطر دون أن يتحول إلى حرب شاملة. أما السيناريو الأخطر فهو الانزلاق غير المقصود بسبب احتكاك أو خطأ تقدير، وهو احتمال لا يحتاج إلى قرار كبير بقدر ما يحتاج إلى لحظة صغيرة تفلت من السيطرة.أن التصعيد الأمريكي–الفنزويلي ليس خبراً بعيداً عن القارئ البسيط كما قد يبدو. إنه يمس أسعار الطاقة بشكل مباشر أو غير مباشر، ويعيد رسم خطوط النفوذ في الإقليم، ويقول للعالم إن السياسة حين تضع يدها على النفط، فإنها لا تكتفي بتغيير عناوين الأخبار، بل تغير أيضاً لغة الأسواق ومزاج الناس ومعادلات القوة.
|
| المشـاهدات 57 تاريخ الإضافـة 11/12/2025 رقم المحتوى 68791 |
توقيـت بغداد









