الثلاثاء 2025/12/16 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
الترشيد القضائي لسلطة التوقيف وتفعيل البدائل: قراءة تحليلية في أحدث توجيهات مجلس القضاء الأعلى
الترشيد القضائي لسلطة التوقيف وتفعيل البدائل: قراءة تحليلية في أحدث توجيهات مجلس القضاء الأعلى
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. سيف هادي عبدالله الزويني
النـص :

المقدمة: إشكالية التوازن بين مقتضيات التحقيق وحماية الحرية الشخصية

 

تشكل الحرية الشخصية إحدى أقدس الحقوق التي كفلها الدستور العراقي والقوانين الدولية، ولا يجوز المساس بها إلا في أضيق الحدود ولضرورات حتمية. وفي الواقع العملي، يمثل "التوقيف الاحتياطي" الإجراء الأخطر الذي يمس هذه الحرية قبل صدور حكم قضائي بات، مما يجعله إجراءً استثنائياً بطبيعته لا أصلاً عاماً.

في ضوء ذلك، تأتي الوثيقة الصادرة عن رئاسة الادعاء العام في مجلس القضاء الأعلى (العدد: ٢٢٠٥/متابعة/ تقارير/٢٠٢٥، المؤرخة في ( ٩ / ١٢ / ٢٠٢٥ )، كوثيقة مرجعية بالغة الأهمية، تهدف إلى إعادة ضبط البوصلة القانونية نحو تقليص حالات سلب الحرية، ومعالجة أزمة اكتظاظ السجون التي باتت تشكل عبئاً على المنظومة العدلية والأمنية.

 

أولاً: تكريس مبدأ "استثنائية التوقيف" وشرعية الإجراء

 

نصت الفقرة الأولى من التوجيهات على: "عدم اللجوء إلى توقيف الأشخاص... إلا في الحالات الوجوبية التي نص عليها القانون كلما أمكن ذلك...".من الناحية الفقهية والقانونية، يُعد هذا التوجيه تفعيلاً جوهرياً لمبدأ "الأصل في الإنسان البراءة". فالتوسع في التوقيف يحول هذا الإجراء الاحترازي إلى "عقوبة مسبقة"، وهو ما يتنافى مع الغاية التشريعية منه. إن التدقيق في عبارة "كلما أمكن ذلك" يشير إلى ضرورة استخدام القاضي لسلطته التقديرية لصالح المتهم، بحيث لا يتم اللجوء للتوقيف إلا إذا توافرت مبرراته الوقائية (خشية الهرب أو العبث بالأدلة) وليس كإجراء روتيني مصاحب لكل دعوى.

 

ثانياً: شخصية المتهم كمعيار لتقدير الموقف القانوني

 

أشار التوجيه بوضوح إلى مراعاة "ظروف القضية والجريمة المرتكبة وشخصية الجاني".هنا ينتقل الخطاب القضائي من التعامل مع الجريمة كواقعة مادية مجردة، إلى التعامل مع "الجاني" كإنسان له ظروف اجتماعية وشخصية. هذا المنحى ينسجم مع النظريات الحديثة في علم الإجرام والعقاب (تفريد العقاب والإجراء). فالمتهم الذي لا يخشى هروبه، أو الذي ارتكب جنحة بسيطة ولا يمثل خطورة إجرامية، لا مسوغ قانوني لتوقيفه، بل إن توقيفه قد يؤدي إلى نتائج عكسية باختلاطه مع عتاد المجرمين (العدوى الإجرامية).

 

ثالثاً: الاقتصاد الإجرائي وضمانات الحرية (الكفالة والمدد الزمنية)

 

ركزت الفقرتان الثانية والثالثة على "قصر مدد التوقيف" و "إطلاق السراح بكفالة". ١. قصر المدد: يؤكد هذا المبدأ على أن التوقيف وسيلة لخدمة التحقيق وليس غاية في حد ذاته. فبمجرد انتفاء مصلحة التحقيق، يصبح استمرار التوقيف تعسفاً، وانتهاكاً لمبدأ المشروعية. ٢. تيسير الكفالة: إن الدعوة لممارسة الصلاحية في إطلاق السراح بكفالة "متى كان ذلك جائزاً قانوناً"، تعكس توجهاً نحو تعزيز الثقة بين القضاء والمواطن. فالكفالة هي عقد ضمان حضور المتهم، وليست وسيلة للتعجيز المالي، وتفعيلها يخفف الضغط الهائل على مراكز الشرطة دون الإخلال بسير العدالة.

 

رابعاً: التحول نحو العدالة التصالحية والبدائل المالية

 

لعل الفقرة الرابعة التي نصت على "اعتماد الحكم بالغرامة بدلاً من الحبس... بما يحقق الردع المطلوب" تمثل النقلة النوعية الأبرز.قانونياً، هذا التوجيه يدعو المحاكم لتفعيل النصوص القانونية التي تتيح استبدال العقوبات السالبة للحرية (في الجنح والمخالفات) بعقوبات مالية. هذا التوجه يحقق فائدتين مزدوجتين: * فائدة اجتماعية: تجنيب المحكوم عليهم -خاصة في الجرائم غير الجسيمة- الآثار المدمرة للسجن (الوصمة الاجتماعية، التفكك الأسري، فقدان الوظيفة). * فائدة اقتصادية: رفد الخزينة العامة بالغرامات بدلاً من استنزاف موارد الدولة في الإنفاق على السجناء، وهو ما يتماشى مع مبدأ "النفعية العقابية".

 

الخاتمة: نحو سياسة جنائية أكثر إنسانية وفاعلية

 

إن هذه الوثيقة الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى لا تمثل مجرد تعميم إداري، بل هي توجيه لتصحيح المسار الإجرائي. إنها دعوة صريحة لقضاة التحقيق والمحاكم لمغادرة مربع "الروتين القضائي" الذي يميل للتوقيف كخيار أسهل، والتوجه نحو فضاء "العدالة الناجزة" التي توازن بذكاء بين حق المجتمع في الأمن، وحق الفرد في الحرية.إن تطبيق هذه التوجيهات يتطلب شجاعة قضائية في استخدام بدائل التوقيف، ووعياً قانونياً بأن الحبس هو "آخر الدواء" وليس أوله، تحقيقاً لسيادة القانون وحفاظاً على كرامة الإنسان العراقي.

 

المشـاهدات 47   تاريخ الإضافـة 15/12/2025   رقم المحتوى 68955
أضف تقييـم